بعد تخرجي بقليل خضت فترة تدريب لمدة سنة في شركة شلمبرجير أوفرسيز العالمية فرع ليبيا، هذه التجربة لا تمثل شركة شلمبرجير بالكامل ولا حتى القسم الذي عملت به، ورغم أنها كانت تجربة رائعة إلا أنها حملت عددًا من السلبيات دفعني في النهاية للاستقالة.

تحذير: تحتوي هذه التدوينة على ألفاظ ومواضيع خارجة، اقرأ على مسؤوليتك..


البداية، امتحان خطي

بدأت القصة عندما تخرجت من المعهد العالي للمهن الإلكترونية، حيث كان من عادة شركة شلمبرجير أن تأتي وتقوم بامتحان خطي للخريجين، لم يكن من المفترض أن أخوض الامتحان لأنهم طلبوا خريجي قسمي التحكم والاتصالات – أنا خريج قسم الحاسب -، ولكنني دخلت على أي حال!

كان الامتحان لمدة 100 دقيقة ويتألف من 100 سؤال، بكل ورقة 20 سؤالًا في مختلف النواحي: لغة إنجليزية، ورياضيات، وفيزياء، وميكانيكا، وعشرون سؤالًا من اختبارات الذكاء.

لم أتمكن من إجابة جميع الأسئلة وخرجت مصابًا بصداع شديد!

بعد عدة أشهر  تلقيت اتصالا من رقم غريب، كانت شركة شلمبرجير تدعوني للحضور لمقر الشركة بذات العماد لإستلام متطلبات الإمتحان.

ذهبت لمقر الشركة بذات العماد واستلمت متطلبات الامتحان  التي شملت أسلوب اللباس، ومقر الشركة، وموعد الامتحان، والمتوقع من المتقدم. وهو عبارة عن مقابلة جماعية وفردية، واختبار للعمل الجماعي، يستمر لمدة يوم كامل بمقر الشركة بمنطقة وادي الربيع بضواحي طرابلس. كما يتوقع من كل متقدم أن يقدم نفسه ويتحدث عنها لمدة خمس دقائق باللغة الإنجليزية، وأن يصطحب معه السيرة الذاتية الخاصة به.

المقابلة الشخصية

في موعد الامتحان قام والدي بتوصيلي لمقر الشركة وتمنى لي التوفيق. وهناك التقيت بالناجحين من الامتحان الخطي من زملائي وآخرين من معهد نصر الدين القمي (يعرف حاليًا بكلية التقنية الهندسية جنزور).

بعد عرض مذهل من مدير التوظيف والموارد البشرية حول شركة شلمبرجير وإنجازاتها حول العالم – تحدث بسخرية حول حقول النفط العراقية وحرب الكويت ودور الأبار المائلة في ذلك – وتحدث بإسهاب عن فرص العمل الدولي والتعاون حول العالم، كان يجب علينا أن نتقدم ونتحدث عن أنفسنا.

قدم كل من الشباب نفسه حتى جاء دوري وكنت الأخير، فتحدثت للمدراء بالإنجليزية ونلت إعجابهم، وفي المشروع الجماعي لم نتمكن من صناعة حفارة نفط من الورق، والحقيقة أنني لم أفرض رأيي على الفريق لأن هذا يتنافى مع مفهوم العمل الجماعي، ولم يؤثر هذا كثيرًا على النتيجة، فجل ما أراد المدراء معرفته عني هو أين تعلمت الحديث بالإنجليزية، ما جعلني متأكدَا من النجاح.

توقيع العقد والعمل

بعد شهر اتصل بي مدير التوظيف قائلا لي أن أحضر لتوقيع العقد الخاص بي، فقد حصلت على الوظيفة – لم يفاجئني هذا الأمر كثيرًا-.

في الحقيقة لم أكن أرغب في وظيفة فني حقل متدرب لأن الوظيفة تعني الذهاب للحقول في الصحراء، وأنا أفضل العمل في المدينة قرب البيت. لكن ضغوطًا اجتماعية معينة فرضت عليّ أن أغير تخصصي وأعمل في المجال النفطي.

قمت بقراءة بنود العقد بشكل جيد قبل توقيعه، ثم تم توزيعنا على أقسام الشركة المختلفة، وكان من نصيبي قسم الحفر و القياسات (Drilling and measurements D&M)، وعند سؤالي لموظف الموارد البشرية عن كيفية التوزيع قال لي: “بالزهر”. وهي كلمة ليبية تعني بالحظ. وهذا اﻷمر دق ناقوس الخطر في رأسي!

وقيل لنا أننا سنأخذ دورات مكثفة قبل بدء العمل في نفس مقر الشركة بوادي الربيع.

قاعدة عجيبة

كان من ضمن القواعد التي في الشركة أنه من يضبط في سيارته دون حزام اﻷمان يطرد من العمل دون إنذار، ولو كان خمسة أشخاص في سيارة ونسي أحدهم إرتداء الحزام يطردون جميعًا. هذه القاعدة على غرابتها لم تضايقني لأنني أرتدي الحزام دائمًا ودون حاجة إلى التهديد والحمد لله.

دورات الاعداد

الدورة الأولى كانت حول التحرش الجنسي Sexual harassment ولم يفلح موظف الموارد البشرية في توصيل الفكرة الموضوعة في الشرائح أمامه، لكنني فهمت أن الشركة تولي أهمية كبيرة جدًا للاحترام بين الموظفين من الجنسين لدرجة أنها تمنع زواج الموظفين  -وهو المتوقع من شركة عالمية مثلها- . ثم دورة في الأمن المعلوماتي IT Security، ودورة في الأمن Safety .
ثم دورة في إدارة الإجهاد Fatigue  management وشدد علينا مدير السلامة بالشركة احترام النوبة الخاصة بنا، وكذلك أيام الدوام الخاصة بنا 2 : 1 وكانت تطبق بواقع ستة أسابيع عمل مقابل ثلاثة أسابيع إجازة.

مآدبة عشاء

بعد ختام الدورة الخاصة بنا تم دعوتنا لحفل عشاء في فندق كورنثيا باب البحر للتعرف بالمدراء ومناقشة الخطط المستقبلية. وبالفعل عدنا للبيت وذهبنا للفندق. وهناك جلسنا على مائدة واحدة مع المدراء، وتعرفت على المدير العام لقسمنا (في الواقع هي شركة تعمل تحت شلمبرجير) وهو مهندس من المنطقة الشرقية.

نظر إلينا بنفاذ صبر وقال: “مفيش شباب من بنغازي؟ تهميش حتى هنا في الشركات اﻷجنبية؟ جيبولنا كام شاب من بنغازي يخدمو!
ثم سأل عن حالتنا الاجتماعية وقال: “اللي فيكم مش متجوز ننصحه يفوت الجواز 5 – 6 سنوات، لأن الكارير متعك هنا وايف في الشغل ووايف في الحوش ما يمشيش حاله”.. وهذا المدير بالذات يدّعي أن لغته الإنجليزية سليمة..

صورة من مأبة العشاء، أنا يمين العمود اﻷوسط في الخلف

وعلى هامش العشاء تم تعريف كل موظف بمديره، ولأن مديري لم يحضر المآدبة قيل لي أن أذهب للشركة للقاءه يوم اﻷحد.

المدير..

ذهبت للقاء مديري المباشر، وكان شخصًا شديد الفظاظة، بمجرد أن مددت يدي لأصافحه بلقب الأستاذ خاطب المحيطين به: “حد يقوله معش يقولي أستاذ خير ما نفطر عليه صبح”. ثم سألني من أين تخرجت وكم عمري، ثم قال: “برا لفلان هذا ال Mentor متعك”. يقصد أن أتتلمذ على يديه.

جلست مع “المعلم” الخاص بي -والذي سأطلق عليه اسم التايلاندي لأسباب ستتضح لاحقًا- وقال لي: “أول حاجة تعرفها أن شلمبرجير هذه Big f**ing Sh*t” ولما كنت لازلت تحت تأثير الصدمة من اللفظ الفاحش الذي واجهني به، أعطاني كومة كتب قوامها 30 غيغابايت وطلب مني دراستها بينما يسافر لمدة أسبوعين.

صورة لنا أثناء نشاط روتيني، أنا إلى أقصى اليمين بالقبعة الحمراء

خصم شهر!

طلب منا تسليم الرقم الوطني ككل الجهات العامة والخاصة، ومنذ أول يوم تم الإعلان فيه عن ذلك قمت بسحب رقمي الوطني من المنظومة، وتوقيعه ثم إعادة إدخاله بالسكانر إلى الحاسوب وإرساله للشخص المكلف بجمع الأرقام، ثم وضعت الرقم في مغلف وأدخلته تحت باب مكتبه لأنه كان مقفلًا.

بعد بضعة أسابيع تلقيت بريدًا إلكترونيًا بالخط الأحمر من المدير العام (الشرقاوي) مفاده أنه تم خصم مرتب شهر مني وإحالتي للتحقيق، وذلك لفشلي في إرسال الرقم الوطني في الموعد.
رغم الصدمة التي تعرضت لها إلا أنني تفقدت صندوق البريد الصادر، وكنت متأكدَا من إرسال البريد في الموعد، ولأن مديري المباشر كان موجودًا فقد دخلت مكتبه دون إستذان..

-تعال بعدين مش فاضي
=خاصملي شهر
-وعلاش؟

=الرقم الوطني
-ماك راقد على ودنك مبعتاش
=قاعد عندي في الأوت بوكس
-به ابعته هي
قمت بإرسال نسخة من الرسالة لمديري المباشر

-به تم يا حبوب، توا نكلمه هي”

وصلت بعد ساعة رسالة من المدير العام بتجاهل الرسالة السابقة وعدم الحضور غدَا للتحقيق..

علمت لاحقًا أن الشخص المسؤول عن تجميع الأرقام كان في إجازة إلى إيطاليا، وشاهد مباراة لفريقه المفضل نابولي من المدرجات. ألم يكن بمقدوره فتح بريده الإلكتروني؟
كيف عرفت؟ كان يتباهى بذلك في قاعة الطعام بصوت عال..

“كان ريتوهم يا ولاد قريناتنا نابوليتانو تريبونا خيال القريناتا انا نعيط وما فاهم شي” أو شيء من هذا القبيل..

كيف كان وضعي الوظيفي؟

كان عقدي من الدرجة السابعة G7 لأنني خريج دبلوم عالي والمسمى الوظيفي Field specialist trainee، متدرب فني حفر، وحسب لوائح الشركة فإن الدرجة الثامنة هي درجة المتدرب وللترقية منها يجب خوض School أي دورة تدريبية، وعمل يكون فيه المتدرب المهندس الأساسي Lead. ويعرف هذا العمل باسم Breakout job

الذي يؤدي بي للدرجة الثامنة، ومنها للتاسعة لأصبح Field specialist بعد سنتين أو ثلاث إن كنت محظوظًا.
ما يعني أن الدرجة الثامنة هي تكرار للدرجة السابعة، مع نفس المسمى الوظيفي الضعيف..
بينما الشباب الذين تم تعيينهم من بنغازي من خريجي كلية الهندسة بتوصية المدير العام تم تعيينهم بالدرجة الثامنة، بمرتبات ومزايا أفضل، والدورة التدريبية التي أخذناها في المقر أرسلوا هم إلى ماليزيا لمدة عشرة أيام لدراستها، مع مصروف جيب يومي بالعملة الصعبة – عن أي تهميش يتحدث سيادة المدير؟ -.

كما أن هؤلاء المهندسين لهم الإمرة علينا ككل شخص أخر في المقر – حتى عمال اليد الذين لا عقود لهم -. وكانت صدمتنا كبيرة عندما عرفنا أن عقودنا محلية، وأن فرص العمل في الخارج غير موجودة لنا على الإطلاق، وأن الأمل الأخير بإكمال الدرجات والوصول للدرجة 12 لتأمين عمل مكتبي ليست متوفرة للفنيين، بل أنهم يعملون في الصحراء حتى التقاعد، يالها من تجليات مبهجة!!

وكان زملائي من المعهد يسخرون من قبعاتنا الصفراء المخصصة أساسا للزوار، وينعتون بعضهم بالمينونز، وهي شخصيات صغيرة صفراء ظهرت في أحد أفلام ديزني ثلاثية الأبعاد.

بداية مشجعة

بدأت في التعرف على الشركة والموظفين بها، بينما أدرس كومة الكتب التي تتزايد كلما التقيت بمهندس جديد من الفريق حتى ضاق بها الحاسوب المحمول الذي أعطته لي الشركة، ولاحظت أن المدير قل ما يزور موقع الشركة ويمضي أيامه في المكتب في ذات العماد. وأن في القسم الكثير من الحساسيات بين الموظفين. خاصة بين المتدينين “جماعة الجامع”، والآخرين الذين يمثلهم “التايلاندي”، وأنه إما أن تكون مع هؤلاء أو هؤلاء.

جرعة مكثفة من التايلاندي

عاد التايلاندي من السفرة والتي سرعان ما عرفت أنها كانت إلى تايلاند، كما تبرع هو بصور رحلته والأنشطة “الثقافية” التي مارسها هناك، والتي تشمل شرب الخمر، ورسم الأوشام المؤقتة، وجلسات التدليك ذات النهاية السعيدة، كما فهمت أنه مدمن إباحيات وينصح الكل بملء قرص صلب بالأفلام الإباحية قبل التوجه للحقل، مع كميات من الشوكولاتة، لماذا؟ لا أعرف حقيقة.

كما أن هذا الشخص تعلم الصنعة في مصر، ما منحه قاموس الشتائم المصري مع لهجة مصرية ثقيلة على لسانه.  و بملاحظتي الدقيقة له اكتشفت أنه لا يتقن أي شيء في العمل ولم يفدني قط ولم يجب على أي سؤال سألته له. وفهمت أنه يتسبب في كوارث في الحقول، وأن السبب الوحيد الذي يدفع المدير للاحتفاظ به هو أنه يقدم تقارير يومية حول العاملين وكذلك وجبة النميمة اليومية من الأخبار والملاحظات التي يجمعها بتسقط الأخبار تارة، و انتزاعها “بالقصقصة” تارة أخرى.
على العموم كان يدفع له ما يعادل 6000 دولار أمريكي شهريًا (عقده دولي) ليذهب لتايلند كل شهرين، وأكبر مشاكله في الحياة التفريق بين فتاة الليل والمتحول جنسيا على أضواء بانكوك الصاخبة.

لا تهمني خياراته الحياتية بقدر ما يهمني أنه جعلها جزءًا من العمل ومعيارًا للتقييمات – من منظوره على اﻷقل -.

السياسة ترك السياسة..

أحد المواقف التي لن أنساها كانت في ساعة الغداء، وكانت الشركة قد خصصت قاعة كبيرة لأكل الطعام، شبيهة بما تراه في أفلام المدارس والسجون الأمريكية – خاصة مع وجود 300 رجل يرتدون جميعًا الزي الأزرق أو البرتقالي الخاص بالعمل على الحفارات المائية –  يسيرون في طابور بينما يغرف الطباخ لهم الوجبات.

ليست هي القاعة لكنها شبيهة بها كثيرًا

وكنت ذاهبا للجلوس مع زملائي من المعهد وهنا ظهر مشرفي التايلاندي وجرني إلى طاولة المدير.
جلست في طرف الطاولة لتناول غدائي، لم أكن منتبها للحوار لأنني إما أن أكل أو أتحدث، هنا لكزني مشرفي التايلاندي لأن الكلام كما يبدو كان يدور حولي، ونقل هو كلام المدير إليَ لأنه لا يتحدث إليَ مباشرة إلا فيما ندر.

-في المرات القليلة التي كان المدير يزور فيها المقر كان يتحدث في الهاتف متصلا بالغائبين ويسب الدين لمحدثه، ومع كل مع من يتحدث معه، لدرجة أن البعض يسمي القسم بدين اﻷم، بدلا من الدي أند أم-.

ساد صمت غريب وعرفت أن شيئا ما يحدث، لكزني التايلاندي وكرر لي ما قال المدير متحدثًا عني.

“اللي طحلوب يمشي ي*يك من بحداي”، هذه كانت رسالة المدير.

التفت وكان جميع من على الطاولة ينظرون نحوي فقلت معترضًا: معمر ميت ليه سنتين، بجديات إنت ولا شن؟”.
كرر نفس العبارة فأجبته، ليس من المهم بما أجبته بقدر ما هو مهم أنني اضطررت للحديث عن مواقفي السياسية في العمل. ومضى اليوم على خير.. علمت لاحقًا أن مديري هذا قريب أحد أعضاء المؤتمر الوطني العام..

حاولت استرجاع الكلام الذي قيل في البداية، حول أنها شركة عالمية متعددة الجنسيات، لم يبدو أي شيء من هذا أمامي، نفس الهراء والمشاكل التي في كل قطاع، مع زيادة بسيطة في الرواتب لا تقارن بالمخاطرة والمجهود..

علاوة الصحراء

كانت علاوة الخطر في الصحراء 30 دينارًا في اليوم بالنسبة للدرجة السابعة، وعند اعتراضي واجهني المدير بالقول: “ماك واكل شارب بايت”. لا أعتقد أنه من المنطقي أن أتي بسيارتي للحقل كل يوم من طرابلس وأن أضع ساندوتشاتي في حقيبتي؟!  وللمقارنة الحفار الإيطالي يتقاضى علاوة خطر ألف دينار في اليوم..

إيجار المهندس للشركات كما فهمت لاحقًا– نعم، إيجار- هو ألف دينار في اليوم، تأخذ الشركة معظم المبلغ وتعطي المهندس نسبة حسب عقده، في حالتي أنا الشركة تتقاضى 970 دينارًا في اليوم من تعبي وجهدي..

ماهي طبيعة العمل؟

العمل اليومي كان بدنيًا، كنا نقوم بصيانة الأدوات التالفة التي تعود من الحقل ونجهز المعدات التي ستخرج، بانتظار رحلة إلى الصحراء، الأمر كان كتقاليد القبائل البدائية التي ترسل الشاب في مهمة يعود منها رجلًا يحق له الزواج أو ما شابه. هذا بالإضافة للكثير من الدراسة والإمتحانات التي ينبغي أن نوفق بينها وبين الوظيفة.

وكنت سأخرج مع التايلاندي في رحلة لم يكتب لها النجاح للأسف، ولحسن الحظ أنها لم تنجح، فأثناء التجهيز سألني ما أطول مدة قضيتها دون نوم، ثم بدأ في الضحك وقال لي “I’m gonna f**k your ass” عشر مرات على اﻷقل ونحن نجهز المعدات للخروج، ولمعرفتي به لم أستطع تحديد إذا ما كان كلامه مجازيًا أم فعليًا، كما تذكرت دورة التحرش الجنسي التي أخذناها في أول يوم عمل، ولم أدري إن كان يجب أن أبلغ أحدًا عن تحرشاته السخيفة أم أضحك على نكتة سمجة.

أين ملابس العمل؟

زي السلامة الخاص بي لم يكتمل، في أحد المرات تجرأت على طلب زي أخر لأبدل فيه قبل الذهاب في مهمة، فقد علمت أنه من حق كل موظف زي صيفي وزي شتوي، كما شجعني المهندس الذي سأخرج معه في مهمة (ونبه علي ألا أخبر مشرفي التايلاندي)، فقابلني المدير بالصراخ وأنه ليس من حقي زي أخر-وأنه كتر خيرنا أعطيناك قامجو-، وأنه يمكنني ارتداء سروال “أمريكاني” على الحفارة!! – يقصد سراويل الجينز بسلامته – ماذا لو اشتعلت النار في سروالي هذا؟ ثم من قال أنني أريد التضحية بدولاب ملابسي المحدود جدًا فوق حفارة قذرة في مكان ما في الصحراء؟ هذا بفرض أن مسؤول السلامة سيسمح لي بصعود الحفارة دون إرتدائي “قامجو” كامل.

كما أنه لم يكن لدي حذاء واستعرت حذاء كبيرًا من أحد الزملاء سبب لي التواء في كاحليّ الإثنين، وعند الحديث مع الطبيب المرافق قال لي أنه خبير صحة ونمط حياة، وأنه لدي تأمين صحي يمكنني استعماله!؟ وعند الطلب من المدير كان يرفض صرف حذاء لي رغم وجود أحذية جديدة في مكتبه، وبلغني لاحقًا أنه أعطى جميع المهندسين أحذية قبل أن يصرفها للمتدربين..

لشدة فرحي بالحذاء الذي جاء كالفرج بعد الشدة إلتقطت له صورة للذكرى!!

مهمة فاشلة

لاحقا عرفت أنه سيتم إرسالي في مهمة لصالح شركة أيني وأنهم أرسلوا فريقًا خاصًا من إيطاليا لمتابعة العمل عن كثب، وكانوا معنا في المطار في رحلة إلى أبو الطفل، لكنهم غادروا قبلنا واتضح لاحقًا أنهم عرفوا أن الرحلة ألغيت، وبقينا نحن ننتظر ساعتين دون أن يأتي أحد ليبلغنا أو يرد على أسئلتنا، ,وعندما تأكدنا من المرّحل الجوي أن الرحلة ألغيت بسبب عاصفة رملية في الحقل تفرق زملائي سريعًا ووجدت نفسي أمام المطار وحيدًا فأخذت تاكسي للبيت.

رن جرس الهاتف وأنا في الطريق وكان المدير، ودار بيننا الحوار التالي:

-“ألو
=أهلا (فلان)
-شن تدير هني؟ المفروض تلفونك خارج التغطية انت.
=الرحلة ما صارش منه..
-تي شن عرفك انت؟ ووين الحيوانات اللي معاك تليفوناتهم مسكرات، تي نهار دي* أمكم أحرف اليوم.
=الطليان روحو قبلنا بساعتين.
-متأكد.
=أيه.

-احلف
=والله الا روحو قبلنا وفي عاصفة في أبو الطفل الرحلات كلها تأجلت.
-باهي روح أرقد يا حبوب وبعدين ساهل.
=بالك تبي نجي للبيس؟
-روح أرقد!!!

مشكلة في التنسيق

الساعة الثانية عشر ليلا اتصل بي ليبلغني أن لدي رحلة الساعة السادسة صباحًا وأنه يجب أن أكون في المطار بعد أربع ساعات، فقلت له أنه ليس لدي من يوصلني،  وكان جوابه:”مدخلنيش”، قلت له أنني علمت “On such short notice” بمعنى أنني لم أعلم قبل المدة بموعد كاف. فرغى وأزبد وطلب جوابي “من الأخير” فقلت له أنني لن أذهب.

في اليوم التالي كنت على موعد مع التوبيخ الذي كان يتمحور حول كلمة On such short notice
انت عارف خدمتنا On call من اﻷول كيف تقولي شورت نوتس؟
بمعنى أن جدول العمل لا قيمة له ويمكن أن تطلب للعمل في أي لحظة، وأن هذا العذر ليس مقبولا حتى من مهندس كبير، وليس متدرب عديم القيمة، وكعقاب لي تم حرماني من الدورة التدريبية إلى أبوظبي والتي من المفترض أن تكون من متطلبات الترقية (في الحقيقة كانت دورتي اﻷساسية في سيبيريا في شهر فبراير، لكن لحسن الحظ تم رفض طلب المدير).

لم أغضب كثيرًا لهذا، لأنني لم أكن مستعدًا للدورة بشكل كاف، والسبب أن مديري لم يحمل متطلبات التعلم الإلكتروني الخاصة بي حتى شهرين من تاريخ التعيين، والتي بها الامتحانات الإلكترونية والتي ينبغي النجاح فيها بمتوسط 80% وإستكمالها تماما قبل الذهاب لل School.

صورة لي بزي العمل والسعادة تنضح من وجهي

على رمال متحركة

خلال كل هذه الأحداث كانت همسات تتعالى أن الشركة ستخرج من ليبيا بسبب الوضع الأمني المتردي، وبينما حاول المدراء جاهدين طمأنة الموظفين أن ليبيا موقع مهم للشركة وأنها لن تتخلى عنها بسهولة، كان من الجلي أن عكس ذلك هو الصحيح.

القشة التي قصمت ظهر البعير

من ضمن مهام المهندس ( أو العّبد في حالتي) عمل Calibration للأدوات، وهو المعايرة، أي التأكد من أنها تعمل على ما يرام، ولم يكن لدي أي اعتراض على ذلك سوى مشكلة بسيطة جدًا..

أحد أهم الاختبارات هو swap test، الفحص الدوري للمصدر المشع الذي يستعمل في التنقيب عن النفط، ويجب إجراؤه بشكل سنوي للتأكد من عدم تلويث مصدر أشعة غاما للبيئة المحيطة، ولك أن تتخيل من يقوم بهذه الوظيفة.

ذهبت مع المهندسين الكبار لتفقد المصدر ومسحه بعود تنظيف أذان وإرساله للولايات المتحدة للتأكد من أنه لم يتسرب.

ما المشكلة؟ أن المصدر يصدر إشعاعات أكثر بمئة ضعف من المعدل اﻷمن لجسم الإنسان، وأن موقع الشركة في ليبيا لا يحتوي على أي وسيلة وقاية من الأشعة، لا درع الرصاص ولا الملابس الواقية، أي أننا نتلقى جرعة إشعاعية مكثفة سنويًا دون حماية..

المهندسون يروون النكات حول العقم والإنجاب، ويلقون بجهاز كشف الأشعة بعيدًا لأن رقم الجرعة الظاهر على شاشة الجهاز يصيبهم بالخوف، وكذلك صوت صراخه الذي يتصاعد مع زيادة جرعة الإشعاع.

جهاز قياس اﻷشعة الذي يتشأم منه المهندسون

في ذلك اليوم شعرت بحرارة شديدة وغثيان وأصبت بحمى مفاجئة، لدرجة أن قيادة السيارة للبيت كانت إنجازًا غير مسبوق. وفي اليوم التالي كررنا نفس العملية المبهجة مع مصدر إشعاعي أخر.

كنا نقضي ساعتين أو ثلاث نفتح مخزن المصدر الصدئ، منها ساعة كاملة مع الإشعاع الذي يصل ل2000 وحدة، وكان من الممكن تسريع العمل لو صرف لنا أمين المخزن علبة DW40 ثمنها لا يتعدى 5 دنانير على أقصى تقدير لإزالة الصدأ، لكنه يرفض دائما اعطاء اﻷدوات.. نفس البخيل كان يتقمص شخصية  بابا نويل عند زيارة المدراء اﻷجانب للمقر ويقوم بتوزيع القفازات والنظارات الواقية دون حساب. ياله من نفاق مقيت.

هذه التجربة جعلتني أتوقف وأفكر مليًا في هذه الوظيفة، في كم الإساءات اللفظية  والنفسية والمعاملة السيئة – التي ليست جديدة على المواطن الليبي بأي حال – وللأخطار الإشعاعية التي لم تكن ببال والتي تهدد صحتي، ولن يتمكن التأمين الصحي المحدود جدًا من علاجها بأي حال.

طلب الاستقالة

لا أدري إن كانت جرعة أشعة غاما الزائدة في جسدي هي التي تتحدث أم أنه شيئ أخر، لكنني طلبت الاستقالة من الشركة.

رفض مديري المباشر ذلك، وأمام عنادي قرر منحي يوم أجازة للتفكير لكن رأيي لم يتغير (حتى مع صلاة الاستخارة)، وعندئذ أحالني للمدير العام (الشرقاوي) الذي طلب مني بصفة شخصية في مكتبه بذات العماد البقاء وقال لي بودية من ضايقك وكيف نستطيع المساعدة. وفي النهاية أبلغني بأن باب الشركة مفتوح لي في أي وقت، وبدأت في إجراءات مغادرة الشركة.

يوم غادرت شعرت أن حملًا ثقيلًا أزيح عن كاهلي مرة وللأبد، لن أعود لشلمبرجير مهما كانت المغريات، حتى في قسم أخر مع مدير مختلف، لا أظن أنه يمكنني العودة.

ما بعد المغادرة

شهور قليلة واندلعت حرب فجر ليبيا، وغادرت الشركة مسرّحة كل الموظفين غير الأساسيين ومنهم كل زملائي من مقابلة ذلك اليوم. لا أشعر بأي ندم على الاستقالة، على الأقل غادرت ورأسي مرفوع.

هل تعتقد أن خياري هذا مر دون عقاب؟ كل من حولي لامني بشدة على الاستقالة، و ذكروني أن شلمبرجير هي فرصة العمر وأن الجميع يتمنى فرصة للعمل فيها، وأنني رفست النعمة برجلي.

لكل هؤلاء، لا يهمني من انتقادكم شيء، هي حياتي وأنا حر فيها، وها هي شلمبرجير أمامكم كما رأيتها بعيني، هل من متطوع لشغل وظيفتي؟

لقد تم تحذيري من قبل بشأن الإنحرافات في القطاع النفطي، لكن التحذير جاء بخصوص المهندسين اﻷجانب، وليس من بني جلدتي الليبيين!

ختاما أريد أن أعطي درسًا لكل من يبحث عن وظيفة: سلامتك وكرامتك كإنسان هي أهم من الوظيفة. تذكر ذلك جيدًا عزيزي الباحث.

ما رأيك عزيزي القارئ في هذه التدوينة؟ أرجو ترك ملاحظاتك وتعليقاتك باﻷسفل. وشكرًا لك على القراءة.