هذه التدوينة بحاجة لتوطئة تاريخية، ها نحن ذا!

مجلة سامر، كم من الرعب يمكن تقديمه لطفل؟

وأنا صغير قرأت الكثير من المطبوعات اللبنانية التي كانت متوافرة في البيت مثل مجلة سامر، حاول المؤلفون تسليط الضوء بطريقة يفهمها اﻷطفال على بشاعة الحرب اﻷهلية ورعب اﻷطفال وهم يتنقلون بين الملاجئ خوفًا من القذائف العشوائية والصواريخ، وكانت هذه القصص تشعرني بالخوف.

بشاعة الحرب اللبنانية

كبرت قليلا وطالعت كتاب كوابيس بيروت لغادة السمان، وهالني هول ما قرأت! كيف يمكن لأبناء الوطن الواحد أن يشهروا السلاح في وجوه بعضهم البعض، الخوف من الرصاص الطائش ورعب الحواجز اﻷمنية (البوابات)، كيف أن اسمك على البطاقة يحدد ان كنت ستعود لمنزلك الليلة أم لا؟

تروي الكاتبة كيف أنها علقت تحت نيران القناصة حتى أتت سيارة مصفحة وحملتها إلى بر اﻷمان. رواية مكتوبة ببراعة وتجسد جزءًا من هول الحرب اﻷهلية.

غزو العراق 2003

سنة 2003 كانت سنة مفصلية في سيناريو الحروب اﻷهلية، أمريكا اجتاحت العراق وسط رفض المجتمع الدولي واستنكار العالم بأسره، لكن ما حدث قد حدث، والرسالة وصلت بقوة أن كل دولة في المنطقة يمكن أن تكون في مكان العراق الشقيق، تلك الصور من العراق أصابتني بالرعب وأنا ابن 13 عاما! هل يمكن أن يحدث هذا لنا؟ ونحن خرجنا للتو من عشر سنوات من الحصار الاقتصادي الخانق بسبب حادثة لوكربي الشهيرة؟ كانت كل المؤشرات تدل أن ليبيا ستنال مصير العراق وكنت شبه موقن من أن ما حدث لبغداد سيحدث لطرابلس..

“الربيع العربي” 2011

 كل شيء حدث بسرعة شديدة، الاحتجاجات عمت ربوع البلاد، قمع عنيف للمظاهرات ومطالبة بالتدخل الدولي لحماية المدنيين، تلا ذلك خمسة أشهر من القصف العنيف من قبل طائرات التحالف، لم أرى في حياتي شيئًا مثل هذا، نسمع أزيز الطائرة ثم بوووووووووم! يهتز البيت حتى يكاد يقع ونفقد السمع لبضع ثوان. ثم انتهت تلك الحرب وساد السلام، أو كنا نظن ذلك على اﻷقل.

ليس هناك ذكر لتلك الفترة على المدونة سوى قطع الانترنت. احاول تجنب السياسة قدر المستطاع، لكن بلغ السيل الزبى صراحة..

فجر ليبيا 2014

الفترة ما بين 2011 – 2014 كانت هناك اشتباكات بدأت صغيرة وخفيفة، عملية قبض تحولت لمواجهة بالسلاح، اشتباك بين مجموعتين محليتين حول مقر ما أو شخص تم خطفه، وككل شيء اشتدت وتيرتها وأثارها تدريجيا حتى بلغت ذروتها في العام 2014، 50 يوما من القتال العنيف وسط المدينة بالسلاح الثقيل، لا يمكنني وصف الرعب الذي شعرنا به عندئذ، المدينة خاوية من سكانها ولا يسمع إلا صوت القذائف ويتصاعد الدخان من كل شيء، باستثناء عشية اجلاء السفيرة اﻷمريكية، تلك كانت أمسية هادئة..

حرق خزانات النفط في حرب فجر ليبيا

الكهرباء تقطع لثمانية عشر ساعة وأكثر خلال اليوم، البيت بالكامل يهتز لوقوع قذيفة بالقرب منه، الخوف يجثم على الصدور، والكل يشعر بالعجز. أرسلت رسالة لصفحة المجلس البلدي على الفيسبوك أستغيث بهم، فردوا علي بجملة (ربي يحفظكم ويكون في عونكم)، لماذا انتخبكم الناس اذا؟؟ لتردوا عليهم بنبرة العاجز المستضعف عندما تحدث أزمة؟ !

نهاية حتمية

انتهت تلك الحرب البشعة، لو سألت أي شاب أو شابة من سكان طرابلس سيخبرونك أن تلك الفترة هي اﻷسؤا في حياتهم دون منازع، الكل فقد شيئًا أو شخصًا عزيزًا عليه، الكثيرون مروا بتجربة النزوح المريرة، ليس الكل يمتلك مسكنا خارج طرابلس (الكثيرون لا يمتلكون مسكنا داخل طرابلس، ناهيك عن خارجها). تردي الوضع الاقتصادي تسارعت وتيرته بعد تلك الحرب وكذلك الانقسام السياسي.

ما بعد الفجر

من حين لأخر حدثت اشتباكات متعددة في ضواحي المدينة، عادة تغلق تلك الناحية وما يؤدي لها بالسواتر الترابية ويمضي الناس إلى حياتهم بشكل شبه طبيعي، لكن هذه المرة كانت أكبر وأخطر بكثير. .

أغسطس 2018، ماذا تسمي هذا العبث؟

أواخر أغسطس اندلعت الحرب دون مبرر- وهل من مبرر للحرب؟ وبدأت القذائف تنهمر على البيوت اﻷمنة، بيانات تستنكر وحكومات تشجب، وفرصة لكل من تسول له نفسه الطعن في خصم سياسي، دون اعتبار لحياة المدنيين وأمنهم.

سقوط قذيفة على حي سكني بضواحي العاصمة

صور تناقلتها وسائل التواصل لدبابات ومدرعات ومدافع تنقل إلى اﻷحياء السكنية! هل أنتم تحررون فلسطين أيها الملاعين؟ أنتم تتحاربون وسط منازلنا ومساجدنا وشوارعنا؟! لماذا تفعلون ما تفعلونه؟

نقل دبابة إلى مناطق الاشتباك (الصورة من جزيرة الفرناج جنوب شرق طرابلس)

 

إنزال دبابة في الاشارة الضوئية صلاح الدين (جنوب طرابلس)

أيام عصيبة من انتظار المحتوم، بدون كهرباء ووسائل إتصالات، المحلات التجارية نفدت بضائعها وأقفلت أبوابها خوف النهب والسلب، ورائحة القمامة تسد اﻷنوف.

كيف هي الحياة تحت خط النار؟

 هل تسقط علينا قذيفة عشوائية تنهي حياتنا هنا واﻵن؟ هل سنصحو في الصباح لنجد أنفسنا كاملين ولسنا أشلاء (هل يصحو من تحول لأشلاء؟)، وإن صحونا هل سنعيش لنرى نهاية هذا اليوم؟

الناس تأكل تحت القصف، وتنام تحت القصف، وتحلم تحت القصف بغد أفضل، وتحب وتكره تحت القصف. القصف ليس حالة صوفية من التأمل والخروج من الجسد، هي نفس الحياة بشعور أكبر بالخطر واستنفار لكامل الحواس.

أعيد التفكير في الموت والحياة على صوت الرصاص، كم هي تافهة الحياة التي يمكن أن تأخذها قطعة صغيرة من النحاس أو شظية عشوائية أطلقها مراهق مخمور يحارب حربا لا يفهم لماذا يحاربها.

مصدر الصورة: حساب الصحفي عمر فتح الله

معضلة النزوح

نفس اﻷسئلة تراودني كلما اشتدت وتيرة القصف بين الاخوة اﻷعداء: هل نغادر بيتنا؟ إلى أين؟ هل سنجده في مكانه لو خرجنا؟
المكالمات المتعاطفة نفسها التي تزيدنا خوفا: “أطلعوا! شن قاعدين اتديروا غادي؟؟ أطلعوووووا”. “ردوا بالكم على أرواحكم”, كيف سأفعل ذلك؟ هل أنام في العادة فوق السطح فاتحا ذراعي للقذائف؟ أسئلة مستفزة ظاهرها التعاطف وأشك أنها فقط لغرض قطع الملام.

مصدر الصورة: حساب الصحفي عمر فتح الله

اسال نفسي دائما: مالذي سأخذه معي في حالة أنني سأغادر البيت؟ المنطق يقول: جواز السفر وبعض المال، لكن لدي أشياءً أخرى تهمني وأريد أخذها معي، هل تستوقفنا بوابة تسلب كل متاعنا وربما حياتنا؟ هل وهل وهل.

مصدر الصورة: حساب الصحفي عمر فتح الله

كثير من اﻷسئلة المقلقة التي يجب أن يكون لدي جواب عنها في حالة أنني سأستمر في العيش في هذا البلد.

جاهلية القرن الحادي والعشرين

العرب في الأشهر الحرم كانت توقف القتال وتعظم الهدنة قبل الاسلام، لكن الذين أبتلينا بهم لا يعظمون شيئًا سوى الدم والرصاص.
أحيانا يخيل إلي أننا نعيش في الجاهلية، مع أجهزة أيفون وسيارات!

مصدر الصورة: حساب الصحفي عمر فتح الله

هل يستمر هذا السلام الهش؟

إلى متى سيستمر هذا الوضع الراهن؟ هل يدوم وقف إطلاق النار الذي رعته اﻷمم المتحدة؟ هل سيعود السلام إلى ليبيا يومًا ويختفي منها شبح الخوف، كل الخوف؟ أم أنها ستعيش على خط المواجهة دائما؟
هل يجب أن نصبح لاجئين في دول المهجر نحمل أوطاننا بين أضلعنا؟ لماذا تطرديننا يا ليبيا ولا مكان لنا غيرك؟

طرابلس البائسة

مدينة طرابلس التي تردت أحوالها في السنوات اﻷخيرة وتذيلت قوائم المدن الصالحة للمعيشة، وصارت عروس البحر أرملة يطمع فيها كل من في قلبه مرض، مدينة حزينة معدومة الخدمات، تختنق من الزحام والتوقف العشوائي، ويجثم على انفاسها حرق القمامة وسكب مياه المجاري في البحر المتوسط. لكنها قبلة أنظار المتصارعين حتى في خرابها اﻷخير.

ليست هذه أول حرب تعيشها هذه المدينة، ولن تكون اﻷخيرة، هل يمكننا تحمل حرب أخرى؟ إلى متى نعيش بين الشك واليقين؟ أتمنى السلام لهذا البلد المنهك..

هل يمكن أن تسوء الأمور أكثر؟ نعم!! طالع هذه التدوينة..

(توجد تدوينة مشابهة باللغة الانجليزية هنا).