دونت عن دراستي الجامعية بشكل مقتضب على هذه المدونة، كتبت عن صديقي الراحل حمزة، وعن مرور خمس سنوات على تخرجي وكيف أن مسيرتي الاكاديمية لم تكن مبهجة كثيرا، ثم عملي كمعيد بعد ذلك (أيضا دونت عن أعمال قمت بها سابقًا) وأيضا عن تركي لعملي كمعيد وبحثي عن عمل أخر.

اليوم سأدون عن مرحلة مثيرة للجدل في حياتي، تعلمت خلالها دروسًا فاقت ما تعلمته في سنوات دراستي بالمعهد العالي!

البداية

بدأت القصة كما تبدأ كل القصص عادة بثورة شعبية أطاحت بحكم ديكتاتور، تلى ذلك شعور عام بالاحباط لأن الثورة لم تحقق أهدافها، زاد الفساد والمحسوبية وبدا كأن شيئًا لم يتغير سوى علم البلاد ونشيدها.

قبل الثورة عانينا من عسف ولوائح جائرة ومعاملة سيئة في المعهد، وظننا أن الوضع سيتغير بقيام الثورة وفرار المدير وتعيين ادارة جديدة، ارتفع سقف توقعاتنا وتخيلنا أن الأمور قد تتحسن، لذلك كانت خيبة أملنا كبيرة.

اقترح علي أحد اﻷصدقاء -نعم هو نفس الصديق الذي تخليت عنه مطلع العام الجاري– أن ننشئ جبهة وطنية لانقاذ معهد الالكترونات، على غرار جبهة انقاذ معهد النفط، وأن نقوم بعمل مطبوعة خاصة بنا تنشر أفكارنا وأرائنا وانتقاداتنا للوضع الراهن، لفت انتباهي موضوع المطبوعة ودغدغ حلما قديما من أحلامي، العمل بالصحافة!

بداية النشاط اعتصام

قمنا بعمل اعتصام (كانت موضة شائعة في تلك الفترة) وقدمنا مطالبنا للادارة ومنحاهم مهلة طويلة لتنفيذ مطالبنا التي تتمحور حول رفع كفاءة التعليم و تطبيق اللوائح، لكن شيئًا من ذلك لم يحدث، ليضيف لاحباطنا وسخطنا على الادارة وعلى الوضع بشكل عام.

مطالب الاعتصام

كانت احدى مطالبنا الكبرى اعطاء الطلبة الذين قاموا بالعصيان المدني فصلا تعويضيا لهم بين الفصول، وذلك لان العصيان أتى بطلب من “مفتي الديار” في ذلك الحين باعتباره مطلبا وطنيا وشرعيا، ولكن الادارة لم تستجب الا بفصل هزيل في العطلة دخل فيه طلبة لم يعتصموا، وقاموا بمناقشة مشاريعهم بينما منعت الادارة طلبة الاعتصام من ذلك!

كاريكاتير من رسمي يسخر من اتحاد الطلبة ويصفه بالعمالة للأساتذة

أثناء عملي بكلية الزراعة في فصل العمل الميداني شهدت حراكًا طلابيًا نشيطًا وتعرفت على قائد الحراك، واستفدت من خبراتهم في التنظيم والعمل وكذلك بعض المواد التي نشرت تباعًا على الجريدة التي قمنا بنشرها.

الجيلاطينة

أطلقنا على الجريدة اسم الجيلاطينة (وهي نوع من المتفجرات يستعمل في صيد السمك بشكل غير قانوني) وكانت من الأسلحة الأولى للثوار لأنها ردة فعل ملتهبة وارتجالية، كما انها اسلوب المصارع CM PUNK في التعبير عن إحباطاته المعيشية (كما أن الشعار الخاص بنا هو شعاره هو بنكهة ليبية) وهذا الاسم من اقتراح شقيقي اﻷكبر علاء المهووس بالمصارعة وشريكي في إعداد وتقديم برنامج مصارعة حرة بالليبي!

شعار الجبهة الوطنية لانقاذ معهد الإلكترونات

وهكذا نشر العدد اﻷول وتلاه الثاني في عجالة، مع بعض القضايا والأفكار ومقالات الرأي وكاريكاتير أو اثنين، ولم يلاقيا رواجًا كبيرًا وبدا كأن الموضوع بأكمله قد فشل، خاصة أن حماس الشباب اﻷولي قد خبا ووعودهم المغلظة بنشر مقالات ومواد أخلف بسرعة الريح!

العدد الثالث، نقلة نوعية

بأدوات مفتوحة المصدر بالكامل، والكثير من المثابرة والتصميم وشيء من الحظ، ظهر العدد الثالث بشكل جديد وحلة جديدة أصبحت هي الشكل العام للجريدة الذي ميزها طيلة خمسة أعداد لاحقة، كما أن كمية النقد الذي فيه غيرت مسيرتي المهنية وحياتي للأبد! نشر في نفس تاريخ هذا اليوم منذ ست سنوات (فقط للعلم).

على خط النار

لم يرق لأحد أعضاء هيئة التدريس المحترمين -الذي شغل منصب نائب عميد الكلية في ذلك الوقت– النقد الذي وجهناه له في العدد، وطلب مقابلتنا في موعد حدده سلفا في رسالة أرسلها على بريد صفحة الجبهة الوطنية على فيسبوك، وهنا عقد اجتماع مغلق بين اﻷعضاء لمناقشة هذا الطلب وكيفية الرد عليه، وكانت الموافقة بالإجماع (ماعداي)، بمواجهة الإدارة على ملعبهم وفي الوقت الذي حددوه، بينما كان ردي هو أننا لفتنا انتباههم، وطالما نحن ملف مفتوح سنظل في دائرة الاهتمام (كنت خائفا من هذه المواجهة قليلًا). تبا للديمقراطية!

المواجهة

كما كان متوقعا، كان الاجتماع مشحونا بالغضب والتخويف، تركة إثنين وأربعين سنة من القمع وتكميم اﻷفواه لن تختفي بسهولة. هددنا الأستاذ المحترم برفع قضية تشهير علينا، بينما عرض اﻷستاذ اﻷخر الذي حضر جلسة التقريع تمويل جريدتنا وطبعها شريطة أن يوافقوا على مواضيعها كاملة وأن تخضع لرقابتهم – الطلب الذي رفضناه بشدة -، وكانت قطيعة بيني وبين نائب العميد لفترة تجاوزت الخمس سنوات على اﻷقل.

استخدما معنا تقنية الشرطي الطيب والشرطي الشرير التي استهلكتها أفلام هوليود، جميل جدا! مع اتهامات من هنا وهناك بالتبعية للنظام السابق، هل تمازحني؟

الاعتراف

تدريجيا جذبت جريدتنا الانتباه من طلبة وموظفين وأعضاء هيئة تدريس، وحتى موظفين بإدارة الكليات أشادوا بالنقد الذي وجهناه للإدارة ولسياساتها التعسفية بحق الطلاب وتطبيقها ما يناسبها من لوائح وإخفاء الباقي منها (اﻷمر الذي لا زلت ألاحظه كموظف بالقطاع)، وزينت مساهمات أشخاص أخرين صفحات الجريدة ولم تعد الجريدة الخاصة بي، بل خفت جرعة النقد وتخللت الجريدة نغمة إصلاحية لا تخطئها اﻷذن!

لكل فعل رد فعل

بعد تخرجي من ضمن اﻷوائل على الدفعة طلب مني والدي التقديم بالكلية كمعيد (يتضح أن هذا هدفه منذ البداية)، وفعلت ذلك فور استلام إفادة التخرج، لكن الرد جاء بالرفض بشكل شبه فوري، وبعد قليل من التحري عرفت أن خصمي هو نائب العميد الذي يعترض على تعييني، وينشر اﻷكاذيب حول ما أنشره، اﻷمر الذي دفعني لسحب أعداد الجريدة على ورق وتقديمها للعميد للحكم عليها بنفسه، والذي بعد مراجعتها تبين له أن الجريدة خالية من السب والشتم كما زعم الأستاذ المحترم (أول درس في الصحافة نشر ما يمكنك قراءته أمام والدتك وشقيقاتك دون خجل)، وان كان أبدى تحفظات على بعض المواد المنشورة وحدة النقد التي ورد فيها.
بعد عدة اجتماعات مع سيادة العميد طلب لي فنجان قهوة وقال:

“لقد هددنا نائب العميد بالاستقالة إن قمنا بتعيينك، إما أنت أو هو، بعد أن تحدثت معك وعرفت مقدار أدبك وعلمك فقد خسرناك يا بني!َ!”

طلبت منه كتابة رسالة رفض رسمية لي وأن يكتب فيها هذا الكلام، لكنه أعطى الرسالة للسيد نائب العميد (الذي هدد بمقاضاتي بتهمة التشهير) ليعدل فيها كما يشاء قبل أن أستلم نسخة منها.

محاولات فاشلة

مصحوبا برسالة الرفض ذهبت لإدارة الكليات وقمت بتقديم تظلّم بسبب رفض التعيين، وبعد أشهر من المراجعات والمراسلات ثبت لي بما لا يدفع مجالا للشك أنه لم يتغير شيء في الدولة الليبية، لا مكان لحرية الرأي ولا للقلم الحر..

لم يتغير أي شيء، في ذلك اليوم فهمت أن الثورة فشلت قبل أن تبدأ حتى! أيقنت أن من يقول الحق مكروه ومبّعد، بينما المنافق محبوب ومرغوب، وأنه لو كانت الجريدة مخصصة لنفاق الإدارة وأعضاء هيئة التدريس لصدر بحقي قرار ايفاد خاص كما أوفد أبناء الأساتذة وأصدقائهم، ومن “يمّروح” على لحم الشواء في زردات اﻷساتذة ويطبل ويرقص معهم في وقت لهوهم.

ما فعلته بعد ذلك

قمت بدخول امتحان شركة شلمبرجير في المعهد نكاية في نائب العميد (أو بالبونتو كما يقول الليبيون، وليس نظام التشغيل المحبب إلى قلبي أبونتو!)، وكنت من ضمن المحظوظين الذين قبلتهم الشركة، بالإمكان مطالعة ما حدث بعد ذلك من هذه التدوينة.

لماذا اﻵن؟

لقد خشيت أن يتابعني سيادة نائب العميد ويفشل مسعاي في التقديم على كلية أخرى – كما نصحني بعض موظفي ادارة الكليات الذين تعاطفوا مع موقفي -، لذلك حاولت أن أنأى بنفسي عن هذا المسمى لكي لا أخاطر بفرصة الرفض من مكان أخر، لكن رحمة الله أوسع من كيد الظالمين وتم قبولي في كلية أخرى وعملت بها سنتين حتى تاريخ كتابة هذه السطور.

أما اﻵن لم أعد أبالي إن أرادو فصلي بسبب ما فعلته في ماضيّ، هذه الوظيفة فكرة سيئة حقًا!!

يمكنك تحميل أعداد الجيلاطينة كاملة ومطالعة فصول الصراع بيني وبين الإدارة، سبع أعداد من هذا الرابط، والعدد الثامن و اﻷخير من هنا.

خطأ النخبوية

سأدون قريبا عن فخ النخبة وكيف أن الكتابة لا تصيب الجمهور المستهدف، كتاباتنا كانت متاحة للطلبة الذين لديهم رفاهية دخول الإنترنت، والمشتركون في موقع فيسبوك، ومهتمون بقضايا المعهد، لذلك كان مدى تأثيرنا قليلا جدا. ثم ان مطالب مثل تحقيق العدل وتطبيق القانون ليست جذابة بقدر أشياء مثل “عزل الفاسدين” أو ثورة التصحيح”. أتذكر بوضوح أحد الطلبة عندما اقترب مني

وقال: “كان بتكسروا ولا تحرقوا أنا معاكم!!“.

وقفة مع نائب العميد

تركت للسيد نائب العميد رسالة تحت باب مكتبه أعتذر له وأعاتبه على ما فعله معي، وأرسلتها له على حسابه على فيسبوك، فماذا كان رده؟ اتهمني باختراق حسابه على الفيسبوك ونشر هذه الاتهامات الكاذبة ليشوه سمعتيّ!!

ياله من شخص لطيف!!

ما كان يمكن تصحيحه

محاولة الاجتماع بالطلبة وطبع منشورات والحوار المباشر مع الطلاب كان ليأتي بنتيجة، وأيضا كان لينقل الصراع لمرحلة المواجهة المباشرة عوضا عن التنظير والنقد. هذا ما فكرنا في فعله ولكننا لم نفعله قط.

الجيد أنه بالتدريج تم تطبيق مطالبنا ونسبها من طبقها لنفسه كإنجازات بعد عدة سنوات من تخرجنا وتفرقنا في البلاد! بينما هي أبسط حقوق الطالب والمؤسسة!

لقاء غير متوقع

أثناء سنوات التيه (تحديدا سنة 2015) وأنا أراجع على قرار التعيين، التقيت بالمسجل العام السابق للمعهد أ. حسن البصري في ادارة الكليات، وكان اﻷستاذ شديد الصرامة معي أثناء دراستي بالمعهد لكنني تمكنت من كسبه لصفي ونلت احترامه، فقام بدعوتي لمكتبه على فنجان من الشاي، وبينما جهز الشاي سألني بشكل مباشر: “انت اللي مداير الجريدة يا معاذ؟”. أجبته بهز رأسي.
فرد علي:

والله أحسن ما درت، يستاهلوا! من يوم دارولهم الاضافي وهما ما يخدموش!!“.

هذه شهادة أعتز بها من رجل تربوي يشهد له الكل بحسن الخلق والنزاهة.

ما رأيك في هذه التدوينة؟ هل لك تجربة في العمل التطوعي والنشاط؟ أترك تعليقا لأعرف ماذا كانت تجربتك، وشكرا لك على القراءة.