هذه أول محاولة قصصية أضعها بين يديكم. آمل أن تحوز على اعجابكم ورضاكم. ولا تبخلوا عليّ بالنقد البناء والملاحظات.
ويجب أن أنوه وأشدد أن هذه القصة خيالية بالكامل وأن كل شخصياتها من نسج خيالي.
قصة قصيرة |
كان يومًا حارًا من أيام يونيو في العاصمة طرابلس. خلت فيه الشوارع من المارة أو كادّت لشدة الحر ورطوبة الجو. ولم يكن يسمع سوى ضجيج المولدات -المتزامن مع قطع الكهرباء المعتاد بالساعات الطوال- الذي لم يفلح في كسر رتابة المكان بل صار جزءًا منها. جلس (الحاج سعيد) أمام محلّه وأصابعه البدينة تداعب خرزات مسبحة بشكل تلقائي بينما يده الأخرى تمرّوح على وجهه المتغضن بمروحة سعف متقصفة الأطراف لتطرد الذباب الملحاح عنه. وعيناه تدوران في محجرهما أسرع من يدي الذبابة الواقفة على حافة كوب الشاي الثقيل الموضوع على الأرض بجواره. شخص بعينيه وهو يتابع فتاتين تمشيان بسرعة في الظل باهتمام شديد أنساه المسبحة والمروحة اللتين بين يديه ولسانه يرطب شفتيه بشكل لا إرادي مصدرًا صوتًا منفّرَا..
-يا حاج (سعيد).
سمع الحاج من يناديه من بعيد فنظر بطرف عينه للمنادي، ثم رفع رأسه بتكبر وأغمض عينيه وانتظر حتى يصل إليه ويحدثّه عن قرب، وسارع بدس مسبحته في جيبه ووضع المروحة على اﻷرض بقرب كأس الشاي الذي غرقت فيه الذبابة، وأمسك بعصاه في أباء.
كان القادم هو جاره الشاب (أحمد) خريج الماجستير الذي يشغل وظيفة حكومية بسيطة. وكان يبدو من ملابسه القديمة على الرغم من نظافتها رقّة حاله . وبدا الشحوب واضحًا على وجهه النحيل وقد خطّ التعب والإزهاق أخاديدًا على وجهه انزلقت فيها حبات العرق وبللت ملابسه وهو يسير نحو (الحاج سعيد) حتى وصل إليه وابتسم ابتسامة صادقة وهو يقول:
-نهارك مبروك يا حاج (سعيد).
لم يبدو على الحاج (سعيد) أنه سمعه، فكرّر (أحمد) التحية بصوت أعلى قليلًا. هنا مد (الحاج سعيد) رقبته كسلحفاة عجوز وفتح عينيه وهو يهدر:
*تحسابني طرّشت؟ نسمع فيك يا (حميدة) — تصغيرًا—نسمع فيك. تي شن حالك وشن حال بوك باهي؟
انحنى (أحمد) على الحاج الجالس على عرشه أمام المحل ويداه المتغضنتان تمسكان عكازه بتأهب وقال:
– باهي الحمد لله.
*بعدين تعال جاي. أردف (الحاج سعيد) بصوت عال واللعاب يتناثر من بين أسنانه المحطمة، أما مبروك هذا اللي تحكي عليه والنو يمحّوط والضي هارب. رينا خير من تحت روسكم حني؟
تجاهل (أحمد) تعليقات الحاج (سعيد) وقال:
-حاج، جايك من طرف خالي (سالم) يسلم عليك هلبا وقاللي برا لعمك (سعيد) صاحبي يساعدك ومستحيل يردك لانه ما يردش حد يقصده.
وشعر (أحمد) بمعدته تغوص وهو يتملق هذا العجوز القذر.
رفع (الحاج سعيد) رأسه متشامخًا وقد أحس بأهميته وقبض بيديه المتغضنتين على العصا وانحنى إلى اﻷمام وقال:
*عمركم ما تتفكروني إلا في مصلحة. حتى لما كنت شاد المؤتمر قبل. ما عمره حد فيكم عزمني على غدي ولا تفكرني إلا بعد ما شديت منصب. حتى خالك سالم هذا قفّاص ياكل بروحه، صاحبي ونعزه حتى كانه كلب.
وقهقه لوحده على هذه الطرفة السمجة. ثم استطرد بعد أن سعل وبصق على جانبه دون أن يستسمح (أحمد):
*اي اي قول شن عندك يا (حميدة) وخلصني راني مش فاضي. وتشاغل عنه بالنظر إلى ساعته.
بلع (أحمد) الإهانة بصمت ولعن نفسه مائة مرة ولعن الفقر الذي حوجه للطلب من هذا النذل، وأستطرد موضحًا مقصده:
يا حاج (سعيد) عندي الشيك المصدق هذا نبيك تصرفهولي فلوس، راني مستحق وأمي مريضة تبي حق الدواء معش نلقو فيه في المستشفى و في الصيدليات البرا نلقو فيه غالي..
قاطعه الحاج (سعيد) بفظاظة وهو يدق بعكازه على الأرض:
*شن تحساب انت بس اللي عندك حد مريض؟ إيييييه يا (حميدة) اللي ما يبكيش خانقاته العبرة. تي اني لما مرضت و رقدت في السبيتار ما دورني منكم حد لا انت ولا خالك ولا حتى بوك. وحتى توا رجيلاتي مش قادر نوقف عليهم وظهري كان مش من نسيبي يرفع فيا للعلاج الطبيعي راني من الفراش ما ننوضش أخ أخخخخخ.
*ترا الشيك؟ وخطف الشيك بسرعة لا تتناسب مع حجمه ولا مع موال المناحة الذي كان ينشده دهش لها (أحمد) تمامًا، حتى كاد يدمي كفه الممدودة بأظافره الطويلة.
*هات يديتك سلم وليدي خلي نجيب نظاراتي راني كبرت ما نشبحش بلا بيهم. أه يحط عظيماتك في الجنة يا وليدي.
قال وهو يقف بمساعدة (أحمد) وبالاستناد على عكازه و مشى الهوينا تجاه دكانه الصغير وهو يمر بصعوبة – لبدانته – بين المولدات البراقة اللامعة التي لم يجد لها مكانَا بالداخل فصفها أمام المحل على الرصيف، لا يفوقها لمعانًا سوى لافتة (هذا من فضل ربي) التي علقها أمام المحل ووضع كرسيه أسفلها.
ظل (أحمد) واقفًا بالخارج ينتظر (الحاج سعيد) بجوار كرسيه البلاستيكي اﻷبيض -الذي تغير لونه وبهت وتحول لدرجة من درجات الرمادي الكالح – ليأتي بنظارته وكأنه بتأخيره يمعن في إذلاله. قبل أن يعود ومعه رزمة من الأوراق النقدية بيده وقال وهو لا يزال يمشي:
*كان مش (الحاج سالم) خالك صاحبنا وحبيبنا ومشينا جميع “للمكّة” راهو الشيك هذا اللي بألف حسبتهولك بثمنمية. لكن انا مش نكار عشّرة، الشيك نحسبهولك بثمنمية وخمسين ولا باس على ميمتك..
-قال (أحمد) مدهوشَا: ربّا يا (حاج سعيد). وضغط على كل حرف من حروف كلمة “حاج” ليؤكد التناقض بينهما.
– رد (الحاج سعيد) صارخًا وهو يقترب من (أحمد) بخطوات حثيثة:
* هذا اللي يدير فيكم المعروف! عقابها بتعلمني الدين يا (حميدة)؟
والله هذا ما ناقص؟ أمتى صرت ولا أمتى طلعت على وجه الدنيا؟ عقاب فرخ ولا تسوا! ولا كانك قاري في الجامعة خلاص وليت راجل؟ هاك جاي تبي تتسلف مني فلوس وأنا اللي مش قاري ولا نعرف نفك الخط.
ثم توقف في مكانه وهدأت نبرته قليلًا وهو يقول بابتسامة خبيثة :
عرفت توا علاش ما بيتش نعطيك بنتي الوحيدة ولما جيت أنت وبوك رديتكم من الباب على طول؟ ماك فقري ومتعرفش تجيب القرش، قاعد عابيلي عالمعاش متع الدولة. توا تنفعك القراية والكتابات نقعهم وأشرب ميتهم وأعطي منهم لأمك دوا بالمرة.
مد (أحمد) يده ليأخذ الشيك وقد بلغ الغضب منه كل مبلغ فأوقع (الحاج سعيد) الشيك على الأرض باستهانة وتجاوز (أحمد) ليعود إلى كرسيه. فمد (أحمد) يده وأستوقف (الحاج سعيد) وأداره بقوة من كتفه ليواجهه وهو ينتفض من الغيظ.
*كانك راجل مدها ايدك. قال (الحاج سعيد) متحديًا وألصق وجهه ب(أحمد) حتى أستطاع (أحمد) شم أنفاسه الكريهة. أضرب هي شن تراجي؟ ثم التفت ورائه وصرخ:
* يا (عبدو) وينك يا (عبدو) تعالالي!!
خرج من المحل رجل بدين بلحية كثة يرتدي جبة طويلة تحتها سروال عسكري ويده اليمنى ملطخة بالطبيخة، تتبعه طفلة صغيرة حائرة الملامح تتعثر في خطواتها، ويتناثر شعرها الأشقر حول وجهها الملائكي دون ترتيب.
*مازال والله؟ قال الحاج (سعيد) صارخًا لنسيبه (عبدو) مستنكرًا وقد بدأ المارة والجيران يتحلّقون ليشاهدوا الموقف. عقابها (حميدة) ولى راجل وبيمّد ايده عليا في دكاني؟
=بتمشي تقلب خليقتك ولا نرفعك للمقر توا؟
قال (عبدو) مزمجرًا بلهجة تهديد واضحة وهو يفصل بين (الحاج سعيد) و(أحمد) وأصوات مكتومة تنبعث من اللاسلكي البارز من جيبه.
انحنى (أحمد) ليلتقط الشيك الملقى على الأرض وعيناه معلقتان بوجه الطفلة الملائكي ورأى في ملاحمها وجه حبيبة كاد يمسح من ذاكرته واستدار لينصرف، فناداه (الحاج سعيد) من خلفه:
*يا (حميدة).
– نعم؟ قال (أحمد)
*سلملي على خالك (سالم) هلبا وقوله تعال هدرز يوم تاني.
ذهب ((أحمد)) يبتلعه الطريق وضحكات الحاج (سعيد) ونسيبه (عبدو) تعلو على هدير المولدات وضجيج اللاسلكي وسباب (أحمد) الساخط وهو يكور الشيك المصدق إلى كرة صغيرة.