لي مع جهاز المذياع (الراديو) حكايات كثيرة، تبدأ من طفولتي المبكرة، عندما كان لوالدي – حفظه الله – مذياع من ماركة (سوني) يستمع به للأخبار، وأتذكر بوضوح دقات جرس ساعة (بيغ بين) وهي تدق قبيل نشرة الأخبار، وإن كنت أصغر من أن أفقه ما تعنيه النشرة، أو لماذا يستمع والدي بالسر، وكأنه يقترف جريمة.
والسبب في ذلك بسيط جدًا، تلك الاذاعات كانت تبث أنباء، ليست على هوى النظام الحاكم زمن الحصار، تجد بعض الملامح من تلك الفترة في تدوينة هنا ..
أيام “المراهقة”
في المرحلة الثانوية (وهي مرحلة قل تناولي لها على هذه المدونة) اشتريت مذياعًا صغيرًا، يدعم موجات ال AM – وال FM. وكنت فخورًا به لأنه من أوائل الأشياء التي اشتريتها بمالي الخاص. حيث كنت أتاجر مع زملائي الطلبة بمكسب بسيط، ثم جمعت أرباحي واشتريت مذياعًا صغيرًا بأربعة دنانير. شعرت حينها أنني ملكت العالم بأسره!
كان مذياعًا صغيرًا يعمل بالبطاريات، وصغيرًا بما يكفي لوضعه في الجيب، ويمكن ضبط قرصه ليستقبل قنوات كثيرة، وكنت أستمع للبرامج الإذاعية، والحوارية بينما أقوم ببعض المهمات حول البيت.
وتلف لأنني شعرت بالفضول ففككته، ولم أعرف كيف أعيد تجميع أجزاءه ..
ما بعد الجامعة
عملت في الإذاعات المسموعة، ولعل المتابعين القدامى يتذكرون أيام برنامج (مصارعة حرة بالليبي)، أو الفترة القصيرة التي عملت خلالها براديو (الساعة) الناطق باللغة الانجليزية. تلك أيام أذكرها بكل خير.
الوقت الحالي
اليوم انقطعت الكهرباء مساء، وكان الطقس حارًا ورطبًا. لذا تناولت الحصير، وخرجت للبلكونة طلبًا لنسمة باردة، وكان الطقس أبرد بكثير من الداخل والحمد لله. لذا اضجعت وتناولت الكراس، وبدأت في تدوين بعض الخطوط العريضة لحديث الأربعاء، ومن ضمنها هذا العنوان الفرعي. الذي نظرت فيه بعد التخطيط، والتمحيص، فوجدته يتسع لتدوينة منفصلة، عوضًا عن كونه فقرة في حديث.
وبينما أنا جالس أدون، قررت مداعبة قرص المذياع، والنظر فيما يمكنني إيجاده على الأثير.
بالطبع مداعبة القرص هنا مجازية، فليس للهاتف قرص لأداعبه ..
بالمناسبة، هل تساءلت من قبل، لماذا كانت تدمج الهواتف مع المذياع؟
السبب بسيط، ذلك أن تردد المذياع ال FM، قريب من تردد GSM المستخدم في شبكات المحمول في طوله الموجي، (الذي يتراوح ما بين 87.5، و 107.5)ما يعني أنه بتعديل بسيط، يمكن للهاتف الذي يستقبل ويرسل المكالمات، أن يكون مستقبلًا للمذياع ال FM. وهذا سبب عدم إدماج باقي الموجات في الهاتف (مثل SW و AM و MW).
وهذه معلومات بديهية لمن درس تخصص الهندسة الكهربائية، وهو ما درسته تحديدًا قبل التخصص في هندسة الحاسب اﻷلي.
على أي حال، دعني أحدثك عما وجدت هذا المساء
بينما أقلب بين القنوات، عثرت على ضالتي في قناة إيطالية – دائما ما أتساءل كيف تصل القنوات الإيطالية إلى هنا، وبيننا آلاف الكيلومترات، وبحر لجّ، بينما كان تردد (راديو الساعة) الذي يبعد عن البيت 10 كم مجهدًا، ولا يصل إلا بالكاد مشوشًا! – فقررت الاستماع إليها، بينما أخطط لهذه التدوينة، ولحديث اﻷربعاء التالي بمشيئة الله.
القناة التي استمعت إليها بينما أنا متكئ بالخارج طلبًا لنسمة باردة كانت قناة رياضية، تبث برنامجًا عن كرة القدم. استنتجت ذلك لأن المذيع كان يذكر أسماء فرق، ولاعبين. وبينما لا أتقن الإيطالية، ولا أعرف منها سوى عبارات الترحيب، وبعض العبارات الدارجة على ألسنة العامة – فنحن في ليبيا لهجاتنا تختلط كثيرًا بالإيطالية، خاصة في ما يتعلق بالأجهزة، والسيارات -. إلا أنني فهمت بعضًا مما كان يقال، ووجدت نفسي أستمع وأحاول الترجمة، والفهم. وهذا الأمر كان عكس غرضي تمامًا. كوني وددت فتح ضجة تؤنسني في جلستي، ودون أن أستمع بكليتي، لأنني لن أستطيع أن أفكر بشكل واضح، أو أن أكتب ما أود كتابته.
لماذا أجد المذياع مشوقًا حتى وقتنا هذا؟ وأستمع له من حين لأخر؟
1. هناك دائمًا نوع من التشويق، فأنت لا تعرف ماذا ستكون القناة التالية في البحث، ولا نوع البرامج التي قد تصادفها.
2. هذه العشوائية تعطي شعورًا بالحرية، فأنت لست مقيدًا ببرنامج، أو جدول زمني ثابت.
3. ليس هناك اشتراك يدفع، أو معدات خاصة لاستقبال الإشارة. يكفي توصيل سماعة بمقبس الهاتف (حتى لو كانت لا تعمل) لكي تعمل كهوائي لتوصيل الموجة.
4. لا يحتاج لأي تفاعل معه، أو نقر على شيء ما لكي يعمل. فهو سمعي بالمقام الأول.
5. يمكن فعل أشياء أخرى أثناء الاستماع للبث، فالمصغي متلق سلبي، عوضًا عن الوسائط التفاعلية.
أسباب من و(جهة نظري) لتراجع نسبة الاستماع للمذياع؟
1. انتشار الإنترنت ووسائل التواصل، وبالأخص وسيط البودكاست، الذي يستهدف جمهور الراديو، ولكن بطريقة مختلفة.
2. معظم الهواتف الحديثة لا تأتي مدمجة مع مذياع، ولا حتى بها مقبس سماعة. ما يعني أنه لكي تستمع للمذياع ستحتاج لمذياع مستقل، أو على الأقل هاتف آخر به مذياع.
3. برامج الراديو لا تواكب التطور في أذواق المستمعين، ولا تغيرات المجتمع، بل تشعر كأنها تستهدف جمهورًا معلبًا لا يتطور، ولا تتغير أذواقه.
4. المستمع لا يستمع بتركيز، إما أثناء القيادة، أو أداء شيء ما. ما يعني أنه يستوعب بعض الحديث، أو القليل منه، ويهمل الباقي، أو لا يركز عليه.
في الختام
هذه تدوينة ما كانت لتولد لو لم يخطر ببال أحدهم أن يقطع الكهرباء، ويحدث أن يولد الإبداع من رحم طرح الأحمال؟! ولله في خلقه شؤون.
ماذا عنك عزيزي القارئ؟ هل تستمع للمذياع؟ أم أنك تخطيت هذه المرحلة؟ أم أنك ممن يهدون ورود الصباح في برامج المحطات؟!
شاركني برأيك في قسم التعليقات (ولا تهديني وردة صباحية معطرة بالقهوة، فلدي حساسية من تلك اﻷمور!)، وشكرًا لك على القراءة.