هذه التدوينة ليست مصدرًا للمعلومات حول المدينة. بل هي تجربة خاصة وحميمة مع إحدى المدن الليبية أسردها من باب الأمانة والإنصاف. ويسرني جدًا التدوين عن مدن أخرى شرط أن أقيم بها أكثر من ثلاث ليال متتالية..
تقع مدينة مصراتة إلى الشرق من مدينة طرابلس ب 200 كم. وهي مسافة يمكن قطعها في ساعتين ونصف من الزمن صباحًا عبر الطريق الساحلي. تحدها شرقًا مدينة سرت وغربًا مدينة زليطن وجنوبًا مدينة بني وليد.
كيف بدأت علاقتي مع مدينة مصراتة
عندما حل القضاء ونزحنا من منزلنا لم نجد مكانا يأوينا في مدينة طرابلس التي لم يعد فيها موطئ قدم لأحد مع اشتداد أزمة النزوح. فكان الحل على صعوبته الخروج من مدينة طرابلس تاركين كل شيء وراءنا والتوجه نحو مدينة مصراتة.
لم نواجه صعوبة في العثور على مسكن ملائم في مدينة مصراتة. بحث سريع على موقع السوق المفتوح عثرنا من خلاله على شقة فندقية أمضينا فيها جل فترة النزوح الأليمة. وأستغل هذه النافذة لأذكر صاحب الشقة العم (إسماعيل) الذي كان خير عون لنا في تلك الفترة. وأثبت مرونته في طرائق دفع الإيجار وكيفية حسابه وأيضا ساعدنا في سحب مبالغ من المصرف لقضاء الحاجات اليومية. بارك الله فيه وعليه.
مصراتة مدينة الثورة
شعرت في مدينة مصراتة أن ثورة فبراير لا تزال حية وتنبض. نفس الثورة التي خبت شرارتها أو كادت في طرابلس وما حولها. صوت التكبيرات كان يعلو من كل مئذنة في مصراتة.
أذكر خطبة الجمعة الملتهبة في مسجد البلابلة. حيث كان يدعو الشيخ صراحة على الطاغية المجرم (خليفة حلاوتا) ويسميه باسمه. بينما ولثمانية أشهر من القصف العنيف (قبل خروجنا) تعامى الخطباء في طرابلس عما يحدث (أذكر منطقتي خاصة) أو نددوا بخجل ضد العدوان الغاشم الذي تعرضت له طرابلس. ولا يجرؤ أحد منهم على تسمية الأشياء بمسمياتها رغم أن المسجد أحيانا يهتز لفرط القصف أو لسقوط قذيفة بجواره ونحن بداخله أثناء الصلاة.
لماذا هذا الأمر؟
لا يزال شهداء مصراتة أحياء في قلوب سكانها. من النادر أن أمر بشارع دون أن أجد اسم أحد الشهداء على حائط، أو سيارة تحمل صورة أحد الشهداء وتاريخ استشهاده. سواء كان في معارك ثورة فبراير، أو البنيان المرصوص، أو بركان الغضب. أنتهز هذه الفرصة لأدعو لهم بالرحمة.
شاركت أثناء مكوثي بمدينة مصراتة في وقفة احتجاجية على العدوان على مدينة طرابلس. وهذه بعض الفيديوات التي صورتها أثناء وقوفي هناك وسط المعتصمين. كان هذا في شهر فبراير 2020 قبل أن يصل وباء كورونا إلى ليبيا.
معرض الشهداء
هذا المعرض يتوسط شارع طرابلس الشارع الرئيسي بمدينة مصراتة. وبه بعض الأليات والذخائر التي استخدمت في ثورة 17 فبراير عندما حوصرت مصراتة. لم يسبق لي دخوله وليس لدي سوى صور له من الخارج.
جزيرة العلم
هي أحد معالم مصراتة الرئيسية وبجوار بلديتها. بها علم كبير يمكن مشاهدته على بعد أميال. وبجوارها حديقة قضيت بها أوقاتا كثيرة.
شاطئ زريق
كثيرًا ما كنت أوقف سيارتي عند هذا الشاطئ وأسرح بخيالي. المسافة التي تفصلني عن طرابلس كم تبدو كبيرة وبعيدة ولا متناهية.. كنت أجد في هذا الشاطئ متنفسًا لهمومي وخوفي على البيت.
المقهى الثقافي
أمضيت به بعض الوقت قبل أن تحل جائحة كورونا بالبلاد. والتقيت مع فريق قناة سلام وتم استطلاع رأيي حول بعض المسائل وتم بثه على الفيسبوك (لا أعلم بخصوص التلفزيون).
ملاحظات عامة عن مدينة مصراتة
- مصراتة مدينة نظيفة. لا أرى فيها التكدس المقزز للقمامة كما أراه في بعض أحياء طرابلس من حين لآخر.
- غياب ظواهر مثل التسول في الشارع. لاحظت ذلك فقط في أواخر شهر رمضان حيث تنتشر المتسولات (ومعظمهن يرتدين الخمار) بين محلات الملابس طالبين حسنة لله.
- الكثيرون يتوقفون في الإشارات الضوئية دون وجود رجال المرور.
- طيلة فترة بقائي هناك لم أرى سيارة تاكسي أو باص يحمل لوحة مصراتة. والسبب في ذلك حسب ما أنبأني بعض أصدقائي من هناك أن الكثيرين يستسهلون العمل على سياراتهم الخاصة دون ترخيصها كسيارات تاكسي. ولا يوجد إفيكو في مدينة مصراتة.
- الكهرباء تنقطع في مدينة مصراتة كما هو الحال في طرابلس. بعض الصفحات المغرضة على فيسبوك تروج لأن مصراتة لا تعرف انقطاع الكهرباء ولا يوجد بها مولدات. وأنا خجل من الاعتراف أني كنت أصدق هذا الكلام الفارغ. شهدت بنفسي خلال الأشهر التي أمضيتها بمدينة مصراتة انقطاعات كثيرة وإظلاما تامًا أكثر من مرة. كما أن الكثير من المحلات التجارية لديها مولدات..
في الختام
مصراتة هي مدينة المهندسين الأكفاء والتجار المهرة. كما أنهم مقاتلون أشداء يتمتعون بذاكرة قوية. أكن لهم كل احترام وتقدير على حسن ضيافتهم ونجدتهم للمحتاج.
بعض العمارات السكنية بشارع طرابلس لا تزال مدمرة رغم مرور عشر سنوات على ثورة فبراير كتذكار حي على بشاعة الحرب وقساوتها.
إنني أغبط أهل هذه المدينة على غيرتهم على مدينتهم ووقوفهم إلى جوارها. ويا ليت لطرابلس رجالًا كما لمصراتة رجال.