هذا النص كتبته يوم الخميس السابع من مارس 2019. ترددت كثيرًا في نشر هذا النص. شعرت دائما أنه نص عاطفي جدًا ولا يتسق مع أسلوب كتاباتي المعتاد. لكن أعتقد أن الوقت قد حان لنشره.
“يوم الخميس الماضي توقفت سيارتي في وسط الطريق السريع عن العمل وكل ما استطعت فعله توجيهها نحو المساق اﻷيمن بانتظار النجدة. لم أكن أعلم وقتها أنها ستكون آخر مرة أقودها فيها، وأن أسوأ مخاوفي تجاهها قد تحقق: أن تتعطل عطلًا لا أتمكن من إصلاحه..
بعد أن قمنا بجرها نحو منطقة تكثر بها الورش، كثفنا السعي والاتصالات أنا ووالدي لمعرفة الخلل، عن نفسي فقد قمت بكافة الاختبارات التي تعلمتها من هنا وهناك، وخلصت لنتيجة واحدة فقط: العطل ليس كهربائيًا، أكد هذا كهربائي سيارات له اسم مضحك جدًا شبيه بروث الدواب.
أمضت السيارة أسبوعًا كاملا لدى إحدى الورش قبل أن يتصل بي صاحب الورشة ليبلغني أن الضرر في المحرك أكثر بكثير مما كان يتوقع، وأنه ضمنيا قد أخلف وعده السابق لي بأنني سأستعيد سيارتي بداية اﻷسبوع القادم (هذا بعد أن أبلغته أنني أنهكت في المواصلات العامة)، وأن السيارة تتطلب محركًا جديدًا ثمنه يقارب نصف ثمن السيارة عندما اشتريتها جديدة!
أعلم يقينا أن كل شيء سائر إلى نهاية حتمية، وأنه لا يبقى سوى وجه الله ذو الجلال والإكرام. لكنني لم أكن مستعدًا لمفارقة السيارة بعد، كان بيعها من سابع المستحيلات بالنسبة لي، وكنت أطمح للوصول إلى 200 ألف كم و 300 ألف كم مع هذه السيارة. لكن قدر الله وما شاء فعل..
كانت تمنحني شعورًا بالتميز بدون مجهود يذكر، هي سيارة لا تراها بشكل يومي في شوارع العاصمة، وأحيانا لا تصادفني سيارة مثلها لأيام طويلة. في عيني هي سيارة رائعة ولا تزهو في عيني أي سيارة أخرى مهما كانت متميزة أو غالية، هل يبدو لك هذا الكلام مألوفا؟ إنه الحب!
أحببت هذه السيارة من كل قلبي، اشتريتها عن اقتناع ودافعت عن خياري ضد جحافل المشككين والمثبطين، وأمضيت معها خمس سنين بحلوها ومرها كانت أجمل سنين حياتي من منظور القيادة، لست نادما على هذا الخيار وكنت لأعيده ألف مرة لو سنحت لي الفرصة. خشيت عليها لدرجة أنني لم أنزل صورتها على الإنترنت ولا مرة واحدة خشية عيون الحساد! ما أغنى حذر عن قدر.
كنت أرى فيها شيئًا مختلفًا: أداء مقتصد، وشكل رياضي ملفت باعتدال. بإمكانها أن تسابق الريح أو أن تسير ببطء وتؤدة بنفس الجودة والكفاءة، دون أن ينقص من تجربة القيادة شيء.
لم يكن شيء يفت في عضدها! لا حفر الطريق، ولا البحار التي تزحف على الشوارع حين تهطل اﻷمطار، قدت هذه السيارة تحت وابل القصف وسابقت دبابة! وفررت بحياتي من مواقف مرعبة وأنا أقودها.
شهدت قمرة قيادتها الكثير من الحزن واﻷلم وكسر الخاطر، وأحاديث لم يسمعها سواها غير الله سبحانه ثم هي. ودموعا سالت على أحلام لم ولن تتحقق، ومغامرات تبدأ وتنتهي عند الشفاه لأن مجرد ذكرها سيلغي تلك الخصوصية والرابط الحميم الذي يربط الرجل بحبيبته. وأفراحًا لا تعني شيئًا سوى لصاحبها، وجبلًا من الذكريات السعيدة والحزينة يموج بداخلي وأنا أطبع هذه السطور.
هي أيضًا نالت حصتها من سوء التشخيص ومعاملات أصحاب الورش السيئين، ووصلت إلى مرحلة من اليأس منها. قبل أن تعود عودة مظفرة، لتنتهي في يوم خميس ليس له معالم.
في كثير من المواقف كانت هي موجودة في الخلفية، الكثير من التدوينات التي تراها تحكي مغامرات وقصص، كانت هي نقطة البداية والنهاية، وحلقة الوصل بيني وبين الكثير من اﻷماكن والمغامرات. فيها أتقنت القيادة، وتعلمت شوارع طرابلس والمدن المجاورة كذلك. كانت معي عندما تخلى عني الكل ودارت عليّ الدنيا. أؤمن أنها الوحيدة التي تستحق لقب (حبيبتي)، لأن ما منحته لي في هذه السنين الخمس يفوق معاني الحب، هو عطاء غير محدود دون انتظار لمقابل أو شكر.
لقد كانت دائمًا هناك، مبتسمة أو يخيل إلي ذلك. لم تعد براقة مثلما اشتريتها، يعلو بدنها الكثير من الخدوش والكدمات، بها صوت مزعج لم يتسنى لي إصلاحه. صبرًا يا حبيبتي عندما يتوفر المال سأصلحك وستعودين كما كنت، سنتحدى العالم كما كنا نفعل كل يوم.. لكن هذا لم يحدث أبدًا.. في لحظة واحدة انتهى كل شيء. دون مقدمات، دون أن يتسنى لي قول كم كنت تعنين بالنسبة لي. أعطيني يومًا واحدًا معًا لأقول لك كم كنت أحبك، وكم سيصعب علي أن أواصل حياتي من دونك. لكننا جميعًا نعلم أن هذا مستحيل.
في كثير من الأيام لم يكن لي عزاء سوى أن لدي سيارة جيدة تعني لي الكثير، وطالما لدي مثل هذه السيارة يمكنني أن أبدأ من جديد وأجد زخمي. أما اليوم فلا أعلم مالذي تبقى لي لكي أبدأ؟
مالذي تبقى مني لأكون أنا .. أنا؟
وداعًا رفيقة سني الشباب، لا أدري مالذي يمكنه أن يعزيني في مصابي فيك، ولا من يمكنه أن يسد الفراغ المهول الذي تركه رحيلك بداخلي..”
نهاية سعيدة؟
لم تكن تلك نهاية السيارة، لقد عادت إلى العمل بعدها وقدتها لأكثر من سنتين. وبعتها آسفا عليها في أغسطس الماضي بعد قرابة ثماني سنوات من الود والخصام ..
بسبب الحرارة الزائدة تلف المحرك بالكامل، وقمت باستبداله بمحرك من الرابش. أشكر الأخ أبو إياس على تفاعله مع القصة وطلبه لتفاصيل إضافية أغفلتها.
هل يروق لك هذا النوع من الكتابات؟ شاركني في قسم التعليقات.