في اﻷونة اﻷخيرة كانت تدويناتي على نسق واحد تقريبًا، وهي اﻷزمة الليبية الجاثمة بثقلها على صدر المواطن البسيط، ورغم أنني تجنبت الخوض في السياسة لأنها وكما قال الشيخ اﻷلباني: “السياسة ترك السياسة”، مع كل الحب والإحترام للعلامة اﻷلباني، السياسة دخلت في كل نواحي الحياة الليبية اليومية، وصار الكل يحلل الوضع على هواه وإنتمائه، سأحاول النظر بشكل موضوعي إلى اﻷزمة.

إن اﻷزمات التي تحدثت عنها في تدوينات سابقة مثل: أزمة السيولة،ومعضلة الجوازات وانقطاع الكهرباء،  ونتائجها التي أدت لشراء المولدات وصيانتها بشكل مستمر، وأزمات أخرى لم أتناولها كأزمة البنزين وغاز الطهو وتطعيمات اﻷطفال وغيرها من ضرورات الحياة، ليست سوى نتائج لأزمة أكبر من ذلك بكثير.
اﻷزمة الليبية من النوع الذي يقف أمامه العاقل حائرًا متحيرًا، ومع ذلك فإنني سأحاول خوض غمار هذه اﻷزمة المعقدة بطريقة تجريدية غير خطية.

الإنقسام السياسي الليبي

توجد في ليبيا ثلاث حكومات على اﻷقل، إحداها في الشرق وتتبع لمجلس النواب الليبي، واﻷخرى في الغرب وتتبع للمؤتمر الوطني العام، وحكومة التوافق المنبثقة عن المجلس الرئاسي، ومصرفيين مركزيين ومؤسستين وطنيتين للنفط (رغم اتخاذ قرار مؤخرًا بدمج المؤسستين تحت جسد واحد).

ومن الواضح أن لا أحد من هذه الحكومات المتصارعة يملك زمام اﻷمور في ليبيا! ومسارات الحوار اللامنتهية برعاية اﻷمم المتحدة أيضًا أسلمت الشعب الليبي لمصير مجهول.

من يحكم اليوم في ليبيا؟ من لديه السلطة ليقرر؟ من هو ولي اﻷمر؟ كل هذه اﻷسئلة لا أملك لها جوابًا.

كل ما أعرف أنه قد حدث ما حدث، وأن لوم أي طرف على حساب اﻷخر أو تحميل أطراف معينة المسؤولية والإشارة بأصابع اللوم لن يغير مما حدث شيئًا. 

سبب خراب ليبيا هو الإنقسام السياسي

 

توقف تصدير النفط

تصدير النفط متوقف منذ بضع سنوات حيث قامت “مجموعات معينة” بقفل موانئ تصدير النفط الخام، ما أدى لنقص إنتاج النفط الليبي من مليون وستمئة ألف برميل يوميًا إلى ما دون النصف مليون برميل يوميًا ما كبد خزانة الدولة الليبية خسائر تقدر بعشرات المليارات من الدولارات!

ليبيا دولة نفطية وتعتمد على النفط بنسبة 100% في تدبير احتياجاتها واستيراد كل ما تستهلكه من الخارج، نعم! ليبيا تستورد كل شئ من الإبرة وحتى الصاروخ!! حتى البنزين يتم تكريره في الخارج وإعادته مجددًا إلى ليبيا!

كما أن انخفاض سعر النفط عالميًا زاد من حدة اﻷزمة الاقتصادية المتردية أصلًا.

الانفلات اﻷمني الكامل

لا وجود لأمن في ليبيا، مجموعة من المليشيات تستمد شرعيتها من اﻷمر الواقع تحكم الناس بالحديد والنار، والسلاح متوافر لدى الكل ما أدى لانتشار الخطف وطلب الفدية والسرقة بالإكراه، وانتشار التنظيمات المتطرفة في كل أرجاء ليبيا (أتحفظ عن ذكر هذه التنظيمات بالاسم لدواع أمنية بحتة)، والصراعات بين هذه التنظيمات والمليشيات والحكومات جعلت من حياة المواطن الليبي صعبة وعسيرة.

كما أن تهريب السلع التموينية والوقود إلى دول الجوار وعبر البحر صار شائعًا للغاية ويضر بمصلحة المواطن بشكل كبير.

الغلاء المعيشي وارتفاع سعر صرف الدولار

وصل سعر الدولار إلى خمسة دنانير، ما أثر على حياة المواطن الليبي بالسلب، وقذف بالطبقة الوسطى تحت خط الفقر، ودفع الفقراء لتسول الحسنات أمام المساجد وفي إشارات المرور، وعلى كل مطب (أسلوب جديد)، وصار تجار العملة في السوق السوداء يتحكمون في حاجة المواطن الليبي بالكامل، يرفعون السعر دون مراعاة للمواطن وحاجاته واﻷزمات الخانقة التي يعاني منها، ما يدفع للتساؤل: من أين يأتي التجار بعملتهم؟ سيناريو التسعينات من القرن الماضي إبان الحصار الاقتصادي يتكرر مجددَا، فهم يحصلون عليها من المصرف بسعر الصرف ثم يبيعونها للمواطن بأضعاف أضعاف سعرها، بينما اليوم لا حصار، بل شعب أضاع بلاده!

الغلاء طال كل شيئ من رغيف الخبز وحتى سلع الرفاهية، كل شئ ازداد ثمنه ما عدا قيمة الإنسان وحياته.

كابوس الهجرة الغير شرعية

كما أن حدود ليبيا التي بقيت دون رقيب ولا حسيب صارت منفذا للتهريب بجميع أنواعه، والسواحل الليبية هي المقصد المفضل للمهاجرين إلى أوروبا، ومؤخرًا صار المواطنون الليبيون يغامرون بحياتهم وسط هذه القوارب المتهالكة أملًا في حياة أفضل على الشاطئ اﻷخر من المتوسط! رغم حصيلة الموتى التي يلفظها البحر كل يوم.

قد لاحظت من متابعتي للأخبار أن ما يهم الغرب وأوروبا خاصة انتهاء أزمة الهجرة الغير شرعية، دون النظر للأزمة الليبية أو حاجة المواطن الليبي البسيط رجل الشارع!

 حياة المواطن الليبي اليوم

المواطن الليبي يترقب انقطاع الكهرباء، والازدحام في محطة الوقود، وحياته من طابور إلى طابور: من المخبز إلى المصرف، وحتى العزاء بالطابور!! لا مال ولا كهرباء ولا غذاء ولا رعاية صحية على الإطلاق، المستشفيات مغلقة والعيادات الخاصة ترفض استقبال الحالات المستعجلة، وقفل الطريق الساحلي يصعب وصول الحالات المستعجلة إلى تونس، المنفذ الوحيد الذي يمكن للمواطن الليبي زيارته دون تأشيرة، إن كان للمواطن جواز من اﻷساس!!

الخوف من الاشتباكات وقفل الطرق والحرب التي يمكن أن تندلع في أي لحظة لتتوقف كما بدأت دون إنذار!

لصالح من يحدث كل هذا ومن المستفيد؟

من المسؤول عن الحروب الطاحنة والشباب التي تفقد حياتها يوميًا بإسم ثورة كذا وثورة كذا وحرب كذا؟ جيل الشباب الذي سيبني اﻷوطان دفع حياته ليغتني الكهول والشيوخ ويملؤا حساباتهم المصرفية من أقوات وأرزاق الشعب الليبي.

الكثير من الليبيين مهجرون بالداخل والخارج بسبب الحروب والاشتباكات اللامنتمية بسبب ودون سبب، النعرات والثأر القبلي في ليبيا سبب في الكثير من المصائب قديمًا وحديثًا، بلغ عددهم 400 ألف بالداخل و مليونًا بالخارج حسب أخر الإحصاءات.

كما أن اﻷزمات القديمة قبل أحداث سنة 2011 لم تحل بعد كأزمة الإسكان مثلًا.

بينما تنبثق لجان لا نهائية عن اﻷجساد الهزيلة التي تحكم الليبيين وتمارس حوارًا لا جدوى منه بين عواصم العالم، تارة في برلين وتارة في الصخيرات وأخرى في تونس وجزء من لجنة في سلطنة عمان، ولا يصدر عن هذه الحوارات سوى بيانات يعرف الليبيون ما فيها سلفًا وقرارات لا تعدو كونها حبرًا على ورق ولا تغير من واقع الشعب البسيط شيئًا.
هل برأيك يريد هؤلاء أن تستقر ليبيا؟ وهل سيكون لهم أي فائدة من ذلك؟ هل يترك هؤلاء السفر في الدرجة اﻷولى وفنادق الخمس نجوم على حساب الشعب لكي يرتاح المواطن الليبي؟ الجواب واضح!

حل اﻷزمة الليبية

لا أدعي أنني أمتلك مفاتيح الحل، لكن هذه بعض الخطوات (المنطقية) التي يجب تطبيقها لحل اﻷزمة تدريجيًا، لأنه يجب أن ينسى المواطن الليبي فكرة السوبر مان ذي العصا السحرية الذي يلوح بعصاه فتختفي كل اﻷزمات كأن لم تكن.

  • إنهاء الانقسام بشكل فوري والاتفاق على جسد تشريعي وأخر تنفيذي دون أي تردد.
  • تفعيل الدستور الليبي والكف عن مهاترات “كتابة الدستور“، وفرض حالة الطوارئ والقوانين العرفية.
  • جمع السلاح بأي وسيلة كانت، حتى لو تم الاستعانة بقوة عربية أو إسلامية أو تابعة للاتحاد الإفريقي. والضرب بيد من حديد على الخارجين عن القانون.
  • المصالحة الوطنية الشاملة ورجوع المهجرين والنازحين فورًا وكف اﻷعمال الانتقامية تجاههم، وعمل ميثاق مصالحة وطني كالذي تم تنفيذه في جنوب أفريقيا.
  • فتح موانئ تصدير النفط فورًا.
  • فرض حزمة من الإجراءات التقشفية تشمل فرض ضرائب على سلع معينة وجباية مصاريف الكهرباء والمياه، وضرائب الشركات والموردين ليتعافى الاقتصاد الليبي ويكسب ثقة المستثمرين مجددًا.
  • رفع الدعم عن السلع التموينية واستبداله بدعم نقدي حسب الرقم الوطني ومكافحة التهريب بكل صوره، والرقابة الشديدة على اﻷسواق وحماية مصالح المستهلك.

في الختام

ليبيا دولة غنية جدًا بالموارد الطبيعية والسياحية والإرث التاريخي والحضاري، ولها موقع إستراتيجي ممتاز يكفل لأبنائها (والمقيمين ودول الجوار حتى) حياة هانئة رغيدة، شريطة الاتفاق ونبذ الهوى والتوجهات والالتفاف حول مصلحة الوطن الواحد.

إما هذا أو أن تضيع ليبيا كما ضاعت كردستان والعراق وجنوب السودان والصومال، والحبل على الجرار، ليبيا تتجه نحو الهاوية بسرعة متزايدة، وكل يوم يصعب حل المشكلة أكثر.

إما أن نتحد ونعيش مع بعض كالإخوة، أو نغرق مع بعض كالحمقى.