اليوم هو يوم السبت، ما يعني أن صديقي سيتصل بي مستفهما عن سبب تأخري عن موعد لقائنا الأسبوعي، الأمر ليس رسميًا أو ما شابه ولكنه صار إحدى تلك التقاليد التي لا نريد تغييرها ولا تسميتها بشكل واضح.

سواتر رملية هنا وهناك

السواتر الرملية التي وضعت في مداخل المنطقة جعلت الخروج منها أصعب مما هو عليه عادة، ويبدو أن هذه السواتر زادت في الليل لتشمل كل جوانب التقاطع (بدلا من جانبين فقط باﻷمس)، ما اضطرني للالتفاف عدة مرات قبل الوصول للطريق الرئيسي!

هذه السواتر الترابية ظاهرة قبيحة ومزعجة، والناس أشد خوفا من أن يزيلوا هذه السواتر حتى بعد أسابيع من مرور الاشتباكات، وقد يكتفون بحفرها والمرور داخلها واحدًا وراء الأخر (وأعوذ بك من غلبة الدين وقهر الرجال)، وكدت أقضي ليلة في الشارع فيما مضى بسبب غلق كل المنافذ للمنطقة بهذه الطريقة!

ساتر ترابي بأحد شوارع العاصمة طرابلس

شاي في “القهوة”!

سلكت طريقي نحو المقهى الذي نجلس فيه صباح السبت أحيانًا (عدد من الطرق الأخرى مقفلة لسبب ما أو لأخر) . مع مرور الوقت صارت وجوه رواد المقهى أليفة فعلا وأتعرف على أصحابها وأماكن جلوسهم بمجرد دخولي للمكان، وحتى أحاديثهم التي تدور عادة حول ما حدث بالأمس وتحليلاتهم السياسية للوضع الراهن (هنالك مقهى بمنطقة الفلاح وضع ملصقا بوضوح يمنع الحديث في السياسة وأتمنى أن يطبقه هذا المقهى!) ورغم أنني لا أحب البن “الإيطالي” المستعمل في تحضير القهوة إلا أن الجلسة هنالك لطيفة!

كوب من الشاي بدلا من البن الإيطالي الذي لا أحبه

الغلاء والسيولة

كالعادة سبقني صديقي للمقهى وجلسنا نتجاذب أطراف الحديث، الأحاديث نفسها مكررة ومهترئة الأطراف نوعًا ما تدور في مجملها حول غلاء الأسعار ووقت كانت فيه الحياة أفضل نسبيًا مع الدليل والتفاصيل (لن يغضب صديقي من ذكر محادثاتنا فهو لا يقرأ مدونتي أصلاً رغم أنه مذكور فيها من قبل!) يقاطع أحاديثنا هذه دخول امرأة تطلب صدقة بإلحاح أو طفل يبيع المناديل الورقية، الأزمة الاقتصادية نزلت بثقلها على الفقراء ودفعتهم لحلول يائسة لتوفير لقمة العيش.

أعتقد أن قدرة الناس بشكل عام على الصمود رغم الظروف الأمنية المهترئة وشح السيولة هي مزية تستحق الإعجاب والتقدير، والوقوف عندها لوهلة والنظر إليها مليًا، فهم لم يستسلموا للوضع الراهن وحاولوا إيجاد طرق بديلة لكسب الرزق، لا أويد دفع الرشاوي وأخذ الربى بأي حال من الأحوال، بل العمل الحلال الطيب الجاد لكسب الرزق هو ما يثير إعجابي.

 خارج المقهى كان هناك رجل جالس نعرفه من قبل على أنه يرتب الكراسي أمام المقهى بمقابل زهيد، لكنه اليوم كان يسب ويلعن كل شيء وأي شيء يتحرك بل ورواد المقهى الجالسين سبابا مغلظًا فاحشًا (سبابه يصل إلى الكفر والعياذ بالله)، لا أحد تحرك نحوه أو كلمه بل تركوه في حالته هذه، نفس الأشخاص الذين يتخطون السواتر الرملية بحرص هم الذين تلقو الشتائم اللاذعة من هذا الأخرق المخمور دون أن يرف لهم جفن (لست متأكدًا إن كان مخمورًا أم لا فأنا لم أطل النظر إليه بما يكفي).

السلبية كأسلوب للمقاومة

السلبية ليست أسلوب مقاومة، والسكوت وانتظار انجلاء الغيمة لن يجليها فعلا، الطريق المقفل بالسواتر لن ينظف نفسه والأبله الذي يشتم رب العزة (تعالى عما يشركون) لن يصمت من تلقاء نفسه إن لم ينكر أحد عليه هذا المنكر الذي يفعله.

كنت قد تحدثت من قبل عن أساليب المقاومة السلمية كالعصيان المدني لمواجهة غلاء الأسعار وتأخر نزول المرتبات ولكن لا حياة لمن تنادي! أخر مرتب وصل للمصارف كان شهر 12 من السنة الماضية، وحتى الآن شهر يناير وفبراير لم يصل بعد من وزارة المالية ومارس انتصف وكاد ينقضي، هذا على افتراض أن المصارف بها سيولة كافية لإعطاء المواطنين أموالهم وأن وزارة التعليم ستصرف لي مرتبي (أي وزارة فيهم تحديدًا؟؟).

رحلة العودة كانت أوضح قليلًا لأنني الآن أعرف ماهي التقاطعات المغلقة بالسواتر، هدوء حذر يخيم على الطرقات والجميع يترقب ما سيحدث تاليًا، لم ألاحظ ازدحاما على محطات الوقود أكثر من العادة وهذا أمر جيد، البعض يتوقع أن تندلع الحرب من جديد وأتمنى أن لا يحدث ذلك أبدًا!

دور وسائل التواصل الاجتماعي

بزغ نجم وسائل التواصل الاجتماعي بعد ثورات الربيع العربي في عام 2011 وصارت الوسيلة المفضلة لنقل الأخبار والأحداث اليومية، وهي تعتبر نقلة نوعية في عالم التواصل كان يصعب تخيلها، فكل من لديه اتصال بالإنترنت يستطيع أن يتحدث مع الآخرين ويشارك أفكاره في الزمن الحقيقي، الأمر الذي كان مستحيلا بهذه الطريقة (باستثناء شريط شات القنوات الفضائية).
ولكن بدلا من أن تتحسن نوعية حياة المواطن فقد أضرت وسائل التواصل الاجتماعي بالإنتاجية وأصبحت منبرا لنشر الفتن والكراهية والأخبار الكاذبة والشائعات المغرضة!!

بدلا من أن ينظم المواطنون حملات لمراقبة الأسعار ومقاطعة التجار المستغلين أو صيانة الطرق المتهالكة ومساعدة بعضهم البعض تجدهم يتقاتلون طول اليوم على الفيسبوك ويتبادلون الكلام الفارغ والاتهامات بالسب والشتم والقذف والتكفير!
وبدلا من أن يصل الناس بعضهم تنتشر القطيعة والبغضاء بينهم.

مجموعات إيجابية

لكي لا نعمم توجد مبادرات إيجابية مثل مجموعة المسار الأمن التي تعطي تحديثات للطرق في مدينة طرابلس أولا بأول، والتي أراها التفافا على المشكلة الحقيقية وليست علاجًا. كذلك مجموعة بطاقة الصديق الجمهورية التي تشارك أماكن تواجد ألات سحب النقود التي تعمل ليتمكن المواطنون من السحب وأماكن الأسواق التي تعمل بهذه البطاقة، تحية لهم على مجهوداتهم!

ختامًا

أسبوع جديد يبدأ غدًا الأحد، هذا يعني المزيد من الركض العبثي خلف المرتب والوقوف في طوابير المصرف وتخطي السواتر الترابية هنا وهناك لمطاردة لقمة العيش و أملا في مستقبل أفضل، هذا طبعًا في حالة عدم تجدد المعارك لنضطر لعطلة إجبارية لطيفة مع الأهل والجيران على أنغام الدبابات ومدافع الهاوتزر!

ما رأيك في هذه التدوينة؟ شاركني برأيك في قسم التعليقات باﻷسفل.


4 Comments

Muaad Elsharif · 2017-07-29 at 19:14

بالفعل ان الوضع مزري، وحسبنا الله ونعم الوكيل
تعليقي على ظاهرة المحلات الراقية والماركات الفخمة هو ظاهرة اقتصادية تعرف بطفرة أحمر الشفاه، وسأترك لك هذه لتبحثي عنها في وقتك الخاص أستاذتي.
نسأل الله الفرج القريب لكرباتنا

Anonymous · 2017-07-29 at 18:29

الله المستعان،، نعم لقد حطم الليبيون الرقم القياسي في التفنن في السلبية والفتور. ربما أطلقت عليه أنت في منشور آخر تسمية 'الصبر الجميل'، مع إنني أشك في جماله في حالتنا في ليبيا لأننا نتذمر ونشكي ويسب بَعضُنَا بعضا والعياذ بالله ولا نحرك ساكنا أو نستمد من غضبنا هذا القوة لتغيير مانحن فيه ومواجهة المفسدين والعابثين والمجرمين وعصابات الأموال العامة قبل الخاصة (ذوو الياقات الزرقاء كما يطلق عليهم باللغة الإنجليزية
لكن ألا تلاحظ معي أننا مع قلة السيولة وسوء الحالة المادية عند الأكثرية والمجتمع يزداد في العبثية وسوء التدبير؟ فكل يوم تفتتح المقاهي الفاخرة والمطاعم التي توفر أشهى الاطباق العالمية وبوتيكات ومحلات أزياء تعرض بها قطع تفوق الواحدة الالف دينار ليبي ( طبعا لا يهمني كم يساوي بالدولار واليورو لو حاولنا المقارنة بالطريقة الليبية) الأهم هو قيمته مقارنة بدخل متوسط المواطن الليبي الذي لا يصل الألف أصلا
الكل يشتكي والكل يعبث ويتباهى بما عنده أمام غيره والفقراء يزدادون فقرا والشوارع تمتلئ بالمتسولين من كل الاعمار وذوو الياقات الزرقاء يتفننون في العبث بما تحت أيديهم فيمدهم الله في طغيانهم يعمهون ..اللهم لا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا
بارك الله فيك أخي معاذ ربما هذه المنشورات وبعض المجهودات الاخرى من الشباب الواعي مثلك هي الإشراقات المضيئة
التي تبعث التفاؤل في أنفسنا في عتمة هذا النفق المظلم
حفظك الله ورعاك

Muaad Elsharif · 2017-08-21 at 06:19

العفو أستاذتي الفاضلة، نسأل الله الفرج
أجمعين

Anonymous · 2017-08-21 at 06:16

شكرًا لك،، نعم لقد بحثت عن ظاهرة أحمر الشفاه، وقرأت عنها لأول مرة نعم نستطيع تطبيقها على الواقع في ليبيا والدول العربية لأن هذه الظاهرة استفحلت وازدادت وضوحا مع تردي الوضع المادي والذي لايزال يزداد سوءا كل يوم وبدأ البعض يفقد الأمل ولا نجد اي انتعاش فيما يحدث الآن،،. فتحت نقاشا كهذامع صديقة قديمة من العراق قالت لا اصدق هذا المعتقد الذي يطلقون عليه ظاهرة أحمر الشفاه لأننا في العراق لاحظنا هذه الظاهرة مع سقوط نظام صدام وإلا حتلال الامريكي وماشهدته البلاد من انهيار كامل للاقتصاد الوطنيي عندها بدأت هذه الظاهرة في الظهور ولا يزال العراق الى اليوم وبعد مضي مايقارب الخمسة عشر سنة من سئ إلى أسوأ ولا أمل قريب في تحسن الأوضاع.. ربما حقا التفسير الأكثر منطقيا في رأيي هو ان 'الناس منخنقة والسياحة المنظمة شبه معدومة والامل في السفر مستحيل في ظل الأسعار الحالية للعملات الأجنبية مقابل عملاتنا المحلية والكل فاقد الأمل وضغوط المعيشة وتدبير مصروف الأطفال كل هذا يدفع الناس للخروج للشارع والاكل في المطاعم والمقاهي العامة لكونها المتنفس الوحيد المتاح في الظروف الراهنة .. ' ثم أن هناك دائما طبقة تطفو على سطح المجتمع في أعقاب الحروب والكوارث الكبرى وهي طبقة الاثرياء الجدد الذين يجدون بيئة مناسبة ورطبة لاستثمار ما وصل لأيديهم من أموال خلال انشغال الناس بالأمر الجلل،، في الغالب هؤلاء هم من يصرفون الأموال ويينشئون المشاريع التي تمتص ماتبقى في جيوب الناس من مال لا يكاد يكفي لإطعام أبنائهم لكنهم يصرفونه للتنفيس والبحث عن الرفاهية المؤقتة ،، نسأل الله السلامة،،
شكرًا لك مجددا لفتح باب النقاش
حفظك الله ورعاك

Comments are closed.