شهر رمضان المبارك هو موسم المسلسلات في العالم العربي وليبيا ليست استثناء. تعرض على الشاشة عدد من الأعمال المحلية التي تنفذ خصيصًا للشهر. يذكر المشاهدون بكل ود أعمال (الخال إسماعيل، واللّمة والشاهي واللوز، وقالوها)، وغيرها من الأعمال التي اشتهرت “بالدويتوات” من أمثال الفنانين (خالد كافو) و(عبد الباسط بوقندة)، والفنانين (فتحي كحلول) و(سعد الجازوي)، والفنانتين (مهيبة نجيب) و(زبيدة قاسم).
لكنني اليوم أود الحديث عن الرسوم المتحركة التي كانت تبث خلال شهر رمضان ساعة الإفطار، وأخص منها بالذكر الحجاج: (حمد، والمبروك، وعمر). لأذكر وجوه التشابه بين الأعمال.. وبعض السمات المميزة لكل عمل من نافذة النقد والتحليل..
شاهدنا هذه الأعمال على أقراص فيديو سي دي، ومنها أخذت معظم الصور، والمشاهد.
الحاج حمد
يعتبر هذا الرسوم الأول والأكثر نجاحّا. ظهر لأول مرة في العام 2002. وعبر تاريخه المديد تغير فيه شكل الشخصيات وطريقة التحريك. وكذلك طريقة طرح القضايا ونبرات أصوات الممثلين. وبين الثلاثة أعتقد أنه الأكثر ملامسة للواقع الليبي. فترى (الحاج حمد) يقول في “تتر” العمل: “صايم ما يكلمني حد!!” غاضبًا مغضبًا يعاني من نقص الشاي والقهوة والدخان (وهو أمر أفهمه الآن بعد أن كبرت). يختزل طبيعة المواطن الصائم ضيق الخلق ولومه للصوم في سوء أخلاقه وضعف تركيزه وإنتاجيته.
وأول شيء تلاحظه في (الحاج حمد) شكل رأسه الغريب الشبيه بحبة البطاطس. وإن كنت شاهدت رسوم (قريندايزر) فستعرف على الفور أن (الحاج حمد) هو نسخة ليبية من (دامبي).
شخصية (الحاج حمد)
بدأ (الحاج حمد) حياته كمنتقد للظواهر السلبية في المجتمع (سمة أخذها الحجاج الآخرون وصارت لزمة لهم)، فتراه ينتقد زوجته وهي تتحدث عن جارتها بالنميمة وهي صائمة. كذلك ينتقد سائق الافيكيو الذي فتح أغنية (الحب الحقيقي) والتي رأى حمد أنها تخدش الحياء والذوق العام. كما نراه ينتقد الزحام وصيانة الطرق السيئة وإصلاحها كل سنة وتكرر تلك المشاكل. ثم تدريجيا تحول (الحاج حمد) لشخصية كوميدية. أي من ناقد للظواهر السلبية، لظاهرة سلبية في حد ذاتها!!
(الحاج حمد) رجل انتهازي. لا يمانع أن يغش أو أن يدفع رشوة لتسهيل أموره. أو أن يسرق من عداد الكهرباء إن لم يتمكن من دفع الفاتورة. أيضا (الحاج حمد) جزء من منظومة الفساد حيث ظهر في إحدى الحلقات وهو متعين في ثلاث جهات حكومية (الزراعة والصحة والتعليم) وهو لا يذهب لأي منها.. فقط يذهب للمصرف لتحصيل رواتبه الثلاث!! كما ظهر في إحدى الحلقات وهو يستورد بضاعة فاسدة ويزور أوراقها، لكن السحر انقلب عليه لأن أطفاله أكلوا منها ودخلوا العناية المركزة..
لم يفت (الحاج حمد) أن يدخل السوق بائعًا ومشتريًا، فيظهر في حلقة من الموسم الأول وهو يبيع لبنا مخلوطا بالماء ومنتهي الصلاحية. وحاول أيضا أن يشتري الخضار بالدين بعد طول فصال ليعتدي عليه البائع بالضرب! أيضا يظهر في الجزء الثالث وهو يفاصل الباعة ليشتري بأتفه الأثمان.
أيضا يظهر في أكثر من حلقة وهو يستدين المال من أصدقاءه وجيرانه ثم يتذرع بالحجج لكي لا يسدد الدين. كل هذا في قالب كوميدي طريف.
(الحاج حمد) مسكينًا
أحيانا ترى (الحاج حمد) وهو يعاني ليشتري علبة زيت لسيارته، أو ليوفر زيت الطهو لأسرته بينما يهربه صاحب الجمعية الاستهلاكية ليبيعه في السوق السوداء. أو وهو يتجادل رفقة زملائه “المنتجين” (العمال) مع صاحب “المنشأة” (المصنع) مطالبين برواتبهم. وهي انعكاسات لأزمات حقيقية حدثت بالفعل طرحت بقالب كرتوني.
طبيعة (الحاج حمد) المتناقضة
يبدو (الحاج حمد) (ككثير من الليبيين) كرجل يفضل الكماليات على الضروريات. فتراه يشغل سيارته بتوصيل سلكين معا. لكنه يفتحها بواسطة الريموت كنترول! نفس السيارة المتهالكة بها جهاز تشغيل أقراص مدمجة!!
كما أن بيته يبدو متصدعًا ومتشققًا، لكنه به أجهزة تكييف وجهاز (دش). كنت قد تحدثت عن الدش في تدوينة إولمبياد أتلانتا وريو.
في نفس السياق قامت زوجة (الحاج حمد) (غزالة) ببيع مصاغها لكي تستأجر سيارة فخمة وطاقما من الذهب، وتشتري فستانا لها ولابنتها لحضور حفل زفاف. وهنا علق (الحاج حمد) أنه طلب منها بيع المصاغ لصيانة البيت المتشقق، فأبت!!
(الحاج حمد) “المتسلق”
يظهر حمد في موسم سنة 2012 كرجل انتهازي متسلق. فبعد أن عمّد نفسه كرجل النظام ولديه صورة للقائد في حجرة الجلوس وعلم أخضر بحجم منزله معلق بالخارج. قام مسرعًا وأزالها واستبدلها بعلم الاستقلال. ووضع صورة لرئيس المجلس الانتقالي بصدر بيته. بل وأصبح رئيس المجلس العسكري بمنطقته.. بعد أن أوهم الجميع بأن لديه سلاحًا مضادًا للطيران مثبتًا على السيارة. بينما هو سلم مغطى بقيطون (قماش مشمع)!! أي أنه غير ولائه السابق بسرعة وأداء عال منقطع النظير. وهو ما يعنيه مصطلح متسلق.
توقف اهتمامي بالتلفزيون. فلم أتابع الأجزاء اللاحقة بعد سنة 2012.
هناك بعض الأمور التي تصيبني بالحيرة في (الحاج حمد) ويجب أن أتحدث عنها:
- كلمة الحاج تستعمل لوصف الرجل الليبي الكبير في السن (بغض النظر إن كان حج إلى بيت الله الحرام أم لا). لكن حمد لا يبدو لي مطابقا لهذا الوصف. فهو يبدو في أواخر العقد الثالث من العمر على أكثر تقدير. ما يسند هذا الاعتقاد أنه تزوج من غزالة في سنة 1989. وكون أول موسم في عام 2002 يعني أن زواجهم لم يمر عليه سوى 12 سنة.
- كذلك حمد أب لثلاثة أطفال: رتاج 11 سنة، سراج 10 سنوات، والبطمة 8 سنوات (لقب تحبب للطفل القصير الممتلئ ويعني حرفيًا زر القميص). أكبر أطفال حمد لم يتعدى المرحلة الابتدائية.
- زوجة “الحاج” حمد لا تحمل لقب “الحاجة”. ولم يذكر عمرها قط وإن كنت أعتقد أنها من نفس سن حمد تقريبا. أمر وجدته غريبا في أسرتها هو عندما ذكرت أسماء إخوتها. لها شقيقة اسمها أميرة وشقيق اسمه معتوق.. لماذا تسمى البنات غزالة وأميرة، ويسمى الولد “معتوق”؟ هل هو أخ غير شقيق؟ لماذا هذا الاختلاف في التسمية؟
- سيارة حمد هي سيارة بيجو نقل موديل 404 (ولكن كلمة 504 مكتوبة على فودرة – تابلوه- السيارة) وهو خيار غير مألوف لسنة 2002. حيث أن الشركة المهيمنة على السوق الليبي آنذاك هي شركة دايهو الكورية، مع دخول خجول لهيونداي تعقبه هيمنة في السنوات اللاحقة.. ما يعني أن السيارة هي لإضفاء لمسة كوميدية فحسب.
(الحاج عمر)- 2003
(الحاج عمر) هو مثال للرجل الرأسمالي (لديه موزع فرد، وهو الاسم الذي يطلق على منفذ بيع المواد الغذائية في العهد الاشتراكي لليبيا). رجل بدين أصلع له شارب متهدل على فمه يشبه كلب الساينت برنارد الضخم. ويهز رأسه عندما يتحدث، ما يعزز شبهه بذلك الكلب سالف الذكر.
وعلى النقيض منه تماما، (الحاج صالح). الرجل النحيل العصابي سريع الحركة والحديث. المؤمن بفكر “الثورة” قولا وفعلا. والذي دائما ما يتحدى (الحاج عمر) وينتصر لمفاهيم الاشتراكية والثورة الشعبية. كما أنه بوق النظام الصريح دون مواربة.
يلاحظ كثيرًا النبرة التعبوية في هذا العمل. لن يفاجئك أن عرفت أنه يأتيك مع تحيات اللجنة الشعبية للإعلام فرع طرابلس.. ما يعني أنه عمل بإنفاق حكومي.
على سبيل المثال ركزوا كثيرًا على نهائي أبطال أوروبا بين يوفنتوس والميلان. والتي انتهت بفوز ميلان على حساب يوفنتوس (فريق النظام آنذاك). وخروج عدد من الشباب للاحتفال بفوز ميلان في الشوارع والميادين واعتقالهم اثر ذلك. وانتقاد تشجيع الشباب لذلك الفريق وأنهم يجب أن يدعمو فريق بلادهم عوضًا عن ذلك..
أيضًا في حلقة غريبة وعنصرية (إن ركزت في أسلوب الرسم) يأتي وفد من أربع جنسيات عربية لزيارة (الحاج صالح) في بيته. لمعاتبته على انسحاب ليبيا من جامعة الدول العربية. ولا أدري متى عين (الحاج صالح) كممثل لليبيا في الدول العربية. حيث يبدو رجلا رقيق الحال. لكنها مجرد إسقاطات سياسية على الواقع.
(الحاج المبروك) – 2004
(الحاج المبروك) وزوجته الحاجة مبروكة “بركة شيباني وعزوز”. هو تقليد من نجاح (الحاج حمد) بشخصيات مختلفة. وإن كنت أعتقد أنه مناسب أكثر لدور الحاج.
(الحاج المبروك) رجل متقدم في السن ولديه إبن متزوج وأحفاد في سن المدرسة. ويقود سيارة بيجو504 (عكاري، نسبة إلى منطقة باب عكارة). تبدو مناسبة أكثر بكثير لرجل كبير في السن ولديه سانية (مزرعة) يذهب إليها في نهاية الأسبوع.
(الحاج المبروك) رجل طيب وعلى نياته. ودائما ما يتعرض للمقالب من جاره (حويتة، تصغير الحوتة وهي السمكة باللهجة الليبية. وأيضا تستخدم في التمائم والتعليقات). وحويتة هذا يشبه (الحاج حمد) شكلا وموضوعًا. فهو رجل انتهازي من دون مبادئ يعمل في التجارة. لكنه يشتغل في أي شيء ويدخل في أي مصلحة ليكسب منها كسبًا سريعًا (غير قانوني عادة).
رسم (الحاج المبروك) و(الحاج عمر) يكاد يكون متطابقًا وكذلك طريقة التحريك. كما أعتقد أن (الحاج عمر) زار (الحاج المبروك) في مسلسله فيما يعد أكثر “كروس أوفر” طموح في تاريخ التلفزيون الليبي..
وظهرت غزالة مصبوغة بالأسود تحت اسم مختلف (شلاكة، الحذاء). وهو ظهور يتقلب له ملك “الكاميوهات” ستان لي في قبره من فرط العنصرية والابتذال..
* ستان لي مؤلف شخصيات القصص المصورة كان يحب الظهور في الأعمال المقتبسة من شخصياته في أدوار صغيرة. وهي ما يعرف بال Cameo.
نقاط التشابه بين الأعمال
- طبعا، لفظة الحاج بين الأعمال الثلاثة واضحة صارخة، لا تحتاج للوقوف عليها.
- سيارة البيجو “عكاري” مشتركة بين عملين على الأقل.
- صبغة سياسية للأعمال، تتضح كثيرًا مع (الحاج عمر) وتصبح السمة المميزة للعمل. وتخف في (الحاج حمد) حتى أخر حلقة من الموسم. حيث يعقبها دعاء طويل عريض من (الحاج حمد) وهو يرفع يديه “للقائد” بطول العمر والصحة والعافية .. وبقدر ما تبدو هذه المشاهد مبتذلة ومفتعلة إلا أنها ضرورية لضمان استمرارية العمل. كما أن الحاج مبروك يفعل شيئًا مشابها..
- البدلة العربية (وهي الزي الليبي التقليدي). يرتديها كل الشخصيات في هذه الأعمال. كاملة مع المعرقة (الطاقية)، والفرملة (الصديرية). والسروال العربي الفضفاض. كذلك ترتدي زوجاتهم الرداء التقليدي والفراشية عند الخروج من البيت.
- من وجهة نظري أعتقد أن الزي الليبي هو محاولة للمحافظة على التقاليد. لكن سيارة البيجو ليست بأي حال من تقاليد المجتمع الليبي.
خلاصة
هذه الرسومات هي انعكاس لواقع المجتمع التي هي فيه. ومدى صدقها من عدمه يعتمد على هامش الحرية المتاحة وكمية تحمل النقد وتقبله بصدر رحب. وإن كانت محاولات متواضعة خجولة على مستوى التحريك والأداء الصوتي. إلا أنها تظل جزءًا من ذاكرة الإذاعة الليبية وإرث الليبيين الجماعي. وإن كنت سأختار واحدًا منها كبارومتر حقيقي للمجتمع سيكون (الحاج حمد). وأكبر دليل على ذلك استمراريته وحب الناس الكبير للشخصية. بينما سقط الباقون في هاوية النسيان. (كان من الأفضل دمج الأعمال الباقية في مسلسل (الحاج حمد) مع الحفاظ على السمات المميزة لكل شخصية لإضفاء عمق وثراء أكثر للعمل، كأن يكون (الحاج المبروك) صهر (الحاج حمد)، مثلا..).
ملاحظة أخيرة: للحاج حمد تؤام شقيق يظهر على أثير برنامج مصارعة حرة بالليبي يدعى (الحاج حميدة) .. لماذا أعرف ذلك؟ لأنني أنا من يقوم بالأداء الصوتي، لكن لا تخبروا أحدا 😉